إن ظهر أن بعضهم قلَّد بعضًا.
وفي الحديث أيضًا جواز تقبيل الميت تعظيمًا وتبركًا، وجواز التفدية بالآباء والأمهات؛ وقد يقال: هي لفظة اعتادت العرب أن تقولها، ولا تقصد معناها الحقيقي، إذ حقيقةُ التفديةِ بعد الموتِ لا تُتَصوَّر، وإنما كان تقبيل أبي بكر له، عليه الصلاة والسلام، اقتداءًا به في تقبيله -صلى الله عليه وسلم- عثمانَ بن مظعون، لما في التِّرمذيّ أنه دخل عليه وهو ميت، فأكبَّ عليه وقبله، ثم بكى حتى رُئيت الدموع تسيل على وجنته" وفي التمهيد "لما توفي عثمان بن مظعون كشف النبيّ -صلى الله عليه وسلم- الثوب عن وجهه، وبكى بكاء طويلًا، وقبّل بين عينيه، فلما رُفِع على السرير، قال: طُوبى لك يا عثمان، لم تَلْبَسك الدنيا، ولم تُلْبَسها".
وفيه البكاء على الميت من غير نَوْح، وسيأتي. وفيه أن الصِّدِّيق أعلمُ من عمر، وهذه إحدى المسائل التي ظهر فيها ثاقب علمه، وفضل معرفته، ورجاحة رأيه، وبارع فهمه، وحسن إسراعه بالقرآن، وثبات نفسه، كذلك مكانته عند الناس لا يساويه فيها أحد، ألا ترى أنه حين تشهد، وبدأ بالكلام، مال الناس إليه، وتركوا عمر، ولم يكن ذلك إلا لعظيم منزلته في النفوس على عمر، وسمو محله عندهم. وقد أقر عمر بذلك حين مات الصدّيق، فقال: والله ما أحب أن ألقى الله بمثل عمل أحد إلا بمثل عمل أبي بكر، ولَوددتُ أني شَعْرة في صدره. وفي الطبراني عن ابن عباس "قال: إني لا شيء مع عمر في خلافته، وييده الدرة، وهو يحدث نفسه، ويضرب قدمه بدرته، ما معه غيري أن قال: يا بن عباس، هل تدري ما حملني على مقالتي التي قلت حين مات النبيّ -صلى الله عليه وسلم-؟ قلت: لا أدري، والله يا أمير المؤمنين. قال: فإنه ما حملني على ذلك إلا قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} إلى قوله: {شَهِيدًا} فوالله إن كنت لأظن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بأجزاء أعمالها.
وفيه اهتمام عائشة، رضي الله تعالى عنها، بأمر الشريعة، وأنها لم يشغلها عن حفظها ما كان من أمر الناس في ذلك اليوم. وفيه غيبة الصديق عن وفاته -صلى الله عليه وسلم-، لأنه كان في ذلك اليوم بالسُّنْح، وكان متزوجًا هناك. وفيه الدخول على الميت بغير استئذان، ويحتمل أن يكون عند عائشة غيرها، فصار كالمحفل لا يحتاج الداخل إلى إذن، وروي أنه استأذن، فلما دخل أذن للناس. وفيه قول أبي بكر لعمر: اجلس، فأبى، وإنما ذلك لِمَا دَخل عمرَ من الدهشة والحزن. وقد قالت أم سلمة: ما صدقتُ بموت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى سمعت وقع الكِرَاز، أي: الفؤوس، وقيل: تريد وقع المَسَاعي تحثو التراب عليه -صلى الله عليه وسلم-. ويحتمل أن عمر رضي الله تعالى عنه ظن أن أجله، -صلى الله عليه وسلم-، لم يأت، وإنه تعالى مَنَّ على العباد بطول حياته. ويحتمل أن يكون أُنسيَ قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} الخ، وقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} الخ وكان يقول مع ذلك: ذهب محمد لميعاد ربه، كما