اختلف عليه فيه، وعلى كل حال سنده لا يعارض سند هذه الأحاديث. وأخرجه ابن ماجه عن أنس والطبراني عن عبد الرحمن بن سمرة والبزار عن أبي سعيد وابن عدي عن جابر وكلها ضعيفة، وقد تأولوا حديث الباب بتأويل مستنكر وهو ما نقله ابن دحية عن القدوري من الحنفية فحمل لفظ الوجوب على السقوط فقال: قوله: "واجب" أي: ساقط، وقوله: "على" بمعنى (عن) فيكون المعنى أنه غير لازم ولا يخفى ما فيه من التكلف.
وقال الزين بن المنير: أصل الوجوب في اللغة السقوط، فلما كان في الخطاب على غث ثقيل كان كل ما أكد طلبه منه يسمى واجبًا كأنه سقط عليه، وهم أعم من كونه فرضًا أو ندبًا، وتعقب هذا بأن اللفظ الشرعي خاص بمقتضاه شرعًا لا وضعًا. وكأن الزين استشعر هذا الجواب فزاد أن تخصيص الواجب بالفرض اصطلاح حادث. وأجيب بأن لفظ وجب في اللغة لم ينحصر في السقوط، بل ورد بمعنى مات واضطرب ولزم وغير ذلك والذي يتبادر إلى الفهم منها في الأحاديث أنها بمعنى لزم لاسيما إذا سيقت لبيان الحكم، وفي بعض طرق حديث ابن عمر الآتي في الجمعة "الجمعة واجبة على كل مُحتلمٍ" وهو بمعنى اللزوم وأجاب عنه بعض القائلين بالندبية بأن التشبيه في الكيفية لا في الحكم. وقال ابن الجوزي يحتمل أن يكون لفظة الوجوب مغيرة من بعض الرواة أو ثابتة، ونسخ الوجوب وردّ بأن الطعن في الروايات الثابتة بالظن الذين لا مستند له لا يقبل، والنسخ لا يصار إليه إلابدليل، ومجموع الأحاديث يدل على استمرار الحكم فإن في حديث عائشة أن ذلك كان في أول الحال حيث كانوا مجهودين وأبو هريرة وابن عباس إنما صحبا النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن حصل التوسع بالنسبة إلى ما كانوا فيه أولًا، ومع ذلك فقد سمع كل منهما منه -صلى الله عليه وسلم- الأمر بالغُسل والحث عليه والترغيب فيه، فكيف يدعى النسخ بعد ذلك وقد عارضوا حديث الباب أيضًا بأحاديث منها الحديث الآتي في الجمعة عن أبي سعيد فإن فيه "وأن يستن وأن يمسّ طيبًا". قال القرطبي: ظاهره وجوب الاستنان والطيب كذلك قال: وليسا واجبين اتفاقًا فدل على أن الغُسل ليس بواجب إذ لا يصح تشريك ما ليس بواجب مع الواجب بلفظ واحد، وتعقب بأنه لا يمتنع عطف ما ليس بواجب على الواجب لاسيما ولم يقع التصريح بحكم المعطوف.
وقال ابن المنير: إن سلم أن المراد بالواجب الفرض لم ينفع دفعه بعطف ما ليس بواجب عليه؛ لأن للقائل أن يقول أخرج بدليل فبقي ما عداه على الأصل وعلى أن دعوى الإِجماع في الطيب مردود ففي "جامع سفيان بن عُيينة" عن أبي هريرة "أنه كان يُوجبُ الطيبَ يومَ الجمعةِ" وإسناده صحيح، وكذا قال بوجوله بعض أهل الظاهر. قلت: يجاب عن هذا بأن الإجماع انعقد بعد عصر أبي هريرة، وبأن خلاف بعض أهل الظاهر لا يبطل الإجماع كما هو مقرر عند أهل الأُصول ومنها حديث أبي هريرة مرفوعًا أخرجه مسلم: "مَنْ توضأ فأحسنَ الوضوءَ ثم أتى الجمعةَ فاستمعَ وأنصتَ غُفرَ له". وقال القرطبي: ذكر الوضوء وما معه مرتبًا عليه الثواب المقتضي للصحة، فدل على أن الوضوء كاف وأجيب بأنه ليس فيه نفي الغُسل، وقد ورد من وجه آخر في "الصحيحين"