وهو مبني على أن قيام الليل كان واجبًا عليه صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلى وجوب الاقتداء بأفعاله، وفي كل متن الأمرين نزاع قلت: أما قيام الليل فهو عندنا واجب عليه صلى الله تعالى وسلم من خصائصه، وأما وجوب اتباعه عليه الصلاة والسلام في جميع أفعاله فلم أر من قاله. وأجاب الكِرْمَانِيّ بأن حديث الإسراء يدل على أن المراد بقوله تعالى {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] إلا من نقص شيء من الخمس، ولم يتعرض للزيادة، لكن في ذكر التضعيف بقوله "هن خمس وهن خمسون" إشارة إلى عدم الزيادة أيضًا, لأنّ التضعيف لا ينقص عن العشر، ودفع بعضهم في أصل السؤال بأن الزمان كان قابلًا للنسخ، فلا مانع من خشية الافتراض، وفيه نظر, لأنّ قوله {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] خبر، والنسخ لا يدخله على الراجح.
وذكر في "الفتح" ثلاثة أجوبة:
أحدها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام الليل، بمعنى جعل التهجد في المسجد شرطًا في صحة التنفل بالليل، ويومىء إليه قوله في حديث زيد بن ثابت "حتى خَشِيْتُ أنْ يُكْتَبَ عليكم، ولو كُتِب عليكم ما قمتم به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم" فمنعهم من التجميع في المسجد إشفاقًا عليهم من اشتراطه، وأمن مع إذنه في المواظبة على ذلك في بيوتهم من افتراضه عليهم.
ثانيها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام الليل على الكفاية لا على الأعيان، فلا يكون ذلك زائداً على الخمس، بل هو نظير ما ذهب إليه قوم في العيد ونحوها.
ثالثها: يحتمل أن يكون المَخُوف افتراض قيام رمضان خاصة، فقد وقع في رواية التهجد أن ذلك كان في رمضان، وفي رواية سُفيان بن حُسَين "خشيت أن يفرض عليكم قيام هذا الشهر" فعلى هذا يرتفع الإشكال, لأن قيام رمضان لا يتكرر كل يوم في السنة، فلا يكون ذلك قدرًا زائداً على الخمس. قال في "الفتح": وأقوى هذه الأجوبة في نظري الثلاثة الأُول.
وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم، ندب قيام الليل، ولاسيما في رمضان جماعة؛ لأن الخشية المذكورة أمنت بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-, ولذلك جمعهم عمر بن الخطاب على أُبيّ بن كَعْب رضي الله تعالى عنهما، كما يأتي في الصيام إن شاء الله تعالى، وفيه جواز الفرار من قدر الله إلى قدر الله، وفيه أن الكبير إذا فعل شيئًا خلاف ما اعتاده أتباعه، أن يذكر لهم عذره وحكمه والحكمة فيه. وفيه ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه عليه من الزهد في الدنيا، والاكتفاء بما قل منها، والشفقة على أمته والرأفة بهم، وفيه ترك بعض المصالح خوف المَفْسَدَة، ونقديم أهم المصلحتين، وفيه جواز الاقتداء بمن لم ينو الإمامة، كما مرَّ مستوفى في باب إذا لم ينو الإمام أن يؤم، وفيه ترك الأذان والإقامة للنوافل إذا صليت جماعة.