قلت: على كل حال، الرواية التي لم يتكلم فيها أرجح، وعمل أهل المدينة مرجح، وهو عليها كما يأتي. وقول صاحب الفتح: إن عمل أهل مكة على تلك الزيادة، لم يذكر له مستندًا، وأيضًا ليس لأهل مكة عمل يرجح به، كعمل أهل المدينة، لفقدان المعنى الذي في عمل أهل المدينة فيها.
وقد قالت الحَنفية بتثنية الإقامة كلها، إلا كلمة التوحيد الأخيرة، واحتجوا مما رواه التِّرمذيّ عن أبي مَحذورة: "أنه عليه الصلاة والسلام علَّمه الأذان مثنى مثنى، والإقامة مثنى مثنى"، وحديث أبي جُحَيْفة: "أن بلالًا رضي الله تعالى عنه كان يؤذن مثنى مثنى"، وهذا الذي احتجوا به لا يوازي ما في الصحيحين عن أنس. وأجاب بعضهم عما في الصحيح بدعوى النسخ، وأن إفراد الإقامة كان أولًا، ثم نسخ بحديثِ أبي مَحذورة، يعني الذي رواه أصحاب السنن، وفيه تثنية الإقامة، وهو متأخر عن حديث أنس، فيكون ناسخًا وعورض بأن في بعض طرق حديث أبي مَحذورة المُحسِّنة التربيع والترجيع، فكان يلزمهم القول به.
وقد أنكر أحمد على من ادّعى النسخ بحديث أبي مَحذورة، واحتج بأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "رجع بعد فتح مكة إلى المدينة، وأقر بلالًا على إفراد الإقامة، وعلّمه سعد القرظ، فأذَّن به بعده"، كما رواه الدارقطنيّ والحاكم. وقال ابن عبد البَرّ: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير، إلى أن الأذان من الاختلاف المباح، فإن رَبَّع التكبير الأول في الأذان، أو ثناه، أو رجّع في التشهد، أو لم يرجع، أو ثنى الإقامة، أو أفردها كلها، أو "إلا قد قامت الصلاة"، فالجميع جائز. وعن ابن خُزَيمة: إن ربّع الأذان ورجّع فيه ثنَّى الإقامة، وإلا أفردها. وقيل: لم يقل بهذا التفضيل أحد قبله.
قيل: الحكمة في تثنية الأذان وإفراد الإقامة أن الأذان لإعلام الغائبين، فيكرر ليكون أوصل إليهم، بخلاف الإقامة، فإنها للحاضرين، ومن ثَمَّ استُحب أن يكون الأذان في مكان عال، بخلاف الإقامة، وأن يكون الصوت في الأذان أرفع منه في الإقامة، وأن يكون الأذان مُرتلًا، والإقامة مسرعة، وإنما اختص الترجيح بالشهادتين؛ لأنهما أعظم ألفاظ الأذان، واختص التكرير في الإقامة