مستكبر بل مستغفِر، لا إله إلَّا أنت، فلم يزل يرددها حتى مات. وروي عن الشافعيّ قال: دخل عبد الله بن عباس على عمرو بن العاص في مرضه الذي مات فيه، فسلم عليه وقال: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: أصبحت وقد أصلحتُ دنيايَ قليلًا وأفسدت من ديني كثيرًا، فلو كان الذي أصلحت هو الذي أفسدت، والذي أفسدت هو الذي أصلحت، لفزت، ولو كان ينفعني أن أطلب طلبتُ، ولو كان ينجيني أن أهرب هربت، فصرت كالمنجنيق بين السماء والأرض، لا أرقى بيدين، ولا أهبط برجلين، ففطني بفطنة أنتفع بها يا ابن أخي. فقال ابن عباس: هيهاتَ يا أبا عبد الله، صار ابن أخيك أخاك، ولا تشاء أن تبكي إلَّا بكيت، كيف يوم يرحل من هو مقيم؟ فقال عمرو: وعلى حبها من حين ابن بضع وثمانين سنة، تقنطني من رحمة ربي، اللهم إن ابن عباس يقنطني من رحمتك، فخذ مني حتى ترضى. فقال ابن عباس: هيهات يا أبا عبد الله، أخذت جديدًا، وتعطي خَلَقًا، فقال عمرو: وما لي ولك يا ابن عباس؟ ما أرسل كلمةً إلا أرسلت نقيضها. وعن عبد الرحمن بن شَمّاسة قال: لما حضرت عمرو بن العاص الوفاةُ بكى، فقال ابنه عبد الله: لم تبكي أجزعًا من الموت؟ فقال: لا ولكن لما بعده. فقال له: قد كنت على خير، فجعل يذكره صحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفتوحه الشام. فقال له عمرو: تركت أفضل من ذلك، شهادة أن لا إله إلا الله، إني كنت على ثلاث أطباق ليس منها طبق إلَّا عرفت نفسي فيه، كنت أول شيء كافرًا، فكنت أشد الناس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلو مت يومئذ وجبت لي النار، فلما بايعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-كنت أشد الناس حياءًا منه، فما ملأت عيني من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حياءًا منه، فلو مت يومئذ قال الناسُ: هنيئًا لعمرو، أسلم وكان على خير، ومات على خير، وأحواله فترجى له الجنة، ثم بليت بعد ذلك بالسلطان وأشياء، فلا أدري أعَليّ أم لي، فإذا مت فلا تبكي عليّ باكية، ولا يتبعني مادح ولا نار، وشدوا عليّ إزاري، فإني مخاصم، وشنوا عليّ الترابَ شنًّا، فإن جنبي الأيمن ليس باحق بالتراب من جنبي الأيسر، ولا تجعلن في قبري خشبة ولا حجرًا، وإذا واريتموني فاقعدوا عندي قدرَ نحر جَزور، أستأنس بكم.