وقال الشيخ الطيِّب بن كيران في شرحه "لتوحيد ابن عاشر": إن هذا الذي أراد أن يكتبه هو من العلم المخير في تبليغه، الذي قال فيه: "فكنت أسر إلى أبي بكر وإلى عمر وإلى عثمان وإليك يا أبا الحسن" قال: إذ لو كان ذلك من الواجب ما تركه لأجل اختلافهم، وقد عاش بعد ذلك أياما، ولو كان مما يجب كتمانه ما همَّ بكتبه لهم. وما قاله في غاية الحسن ولم أجده لغيره وهو يشير إلى ما هو مروي في حديث الإسراء من أن الله تعالى علمه ليلة الإِسراء ثلاثة علوم: علم أمره بتبليغه للعام والخاص، وعلم أمره بكتمه، وعلم خيره فيه.
وقوله "وكثر اللَّغَط" بتحريك اللام والغين المعجمة، أي الصوت والجلبة بسبب ذلك، فلما رأى ذلك، قال: "قوموا عني" وقوله "ولا ينبغي عندي التنازع" هو بالرفع فاعل ينبغي، وفيه إشعار بأن الأولى كان المبادرة إلى امتثال أمره، وإن كان ما اختاره عمر صوابًا، إذ لم يتدارك ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، بعد كما مر، ولأن في بعض الروايات "وأوصاهم بثلاث: قال: أخْرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ... إلخ"، وهذا يدل على أن الذي أراد أن يكتبه لم يكن أمرا متحتما؛ لأنه لوكان مما أمر بتبليغه، لم يكن يتركه لوقوع اختلافهم، ولعاقب الله من حال بينه وبين تبليغه، ولبلغه لهم لفظًا كما أوصاهم بإخراج المشركين وغير ذلك، وقد عاش بعد هذه المقالة أيامًا، وحفظوا عنه أشياء لفظًا، فيحتمل أن يكون مجموعها هو ما أراد أن يكتبه.
قال القرطبي: واختلافهم في ذلك كاختلافهم في قوله لهم "لا يُصَلِّينَّ أحد العصر إلا في بني قريظة" فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا، وتمسك آخرون بظاهر الأمر فلم يصلوا، فما عنَّف أحدا منهم من أجل الاجتهاد المسوغ، والمقصد الصالح. وقوله في تلك الرواية "أجيزوا الوفد" أي أعطوهم، والجائزة العطية، وقيل: أصله أن ناسًا وفدوا على بعض الملوك، وهو قائم على قنطرة، فقال: أجيزوهم، فصاروا يعطون الرجل ويطلقونه،