بذل الدية، فامتازت شريعة الإِسلام بأنها جمعت بين الأمرين فكانت وُسْطى لا إفراط ولا تفريط.
واحتجوا أيضًا بحديث أنس في قصة قتل الربيع عمه، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "كتاب الله القصاص"، فإنه حكم بالقصاص ولم يخير، ولو كان الخيار للولي لأعلمهم النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، إذ لا يجوز للحاكم أن يحكم لمن ثبت له أحد شيئين بأحدهما من قبل أن يعلمه بأن الحق له في أحدهما، فلما حكم بالقصاص وجب أن يحمل عليه قوله "فهو بخير النظرين" أي: ولي المقتول مخير بشرط أن يرضى الجاني أن يغرم الدية. وتُعُقِّبَ بأن قوله عليه الصلاة والسلام "كتاب الله القصاص" إنما وقع عند طلب أولياء المجني عليه في العمد القودُ، فاعلم أن كتاب الله نزل على أن المجني عليه إذا طلب القود أجيب إليه، وليس فيه ما ادُّعي من تأخير البيان.
واحتج الطحاويّ بأنهم أجمعوا على أن الولي لو قال للقاتل: رضيت أن تعطيني كذا على أن لا أقتلك، إن القاتل لا يجبر على ذلك، ولا يؤخذ منه كرْهًا، وإن كان يجب أن يحقن دم نفسه، قلت: قد يختار أن يقتص منه ليكون ذلك كفّارة، ويكون غير معتقد أنَّ الدية برضى الأولياء مكفرة للذنب، فلا يجب عليه حينئذ حقن دمه، وقال المهلب وغيره: يستفاد من قوله "فهو بخير النظرين" أن الولي إذا سئل في العفو على مال إن شاء قبل ذلك، وإن شاء اقتص، وعلى الوالي اتباع الأولى في ذلك، وليس فيه ما يدل على إكراه القاتل على بذل الدية، واستدل به الجمهور على جواز أخذ الدية في قتل العمد، ولو كان غيلة، وهو أن يخدع شخصًا حتى يصير به إلى موضع خفي، أو يجده فيه فيقتله، خلافًا للمالكية، فألحقه مالك بالمحارب، فإن الأمر فيه إلى السلطان، وليس للأولياء العفو عنه. وهذا على أصله في أن حد المحارب القتل. إذا رآه الإِمام، وإن "أو" في الآية للتخيير لا للتنويع.