وتعال لنسمع عن الجنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا قد احترت ماذا أقول من أحاديث الجنة؟ وعن ماذا أكلمكم؟ مئات من الأحاديث قد جاءت في وصف الجنة، ثم بعد تفكير قررت أن أذكر لكم أقل واحد في الجنة، ماذا سيكون نصيبه؟ وكل أهل الجنة بعد ذلك سيكونون أكثر منه، وتخيلوا معي ذلك.
روى الإمام مسلم رحمه الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -يصف حال آخر أهل الجنة دخولاً الجنة-: (آخر من يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة)، أي: وهو خارج من النار يمشي قليلاً ويقع قليلاً، والنار تسفعه قليلاً، (فإذا ما جاوزها التفت إليها)، فهو خرج من النار إلى مكان بين الجنة والنار، فلما نجا من النار نظر إلى هيئتها، قال: (تبارك الذي نجاني منك)، ثم يقول كلمة غريبة جداً: (لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين)، يظن أن النجاة من النار والوقوف في هذا المكان بين الجنة والنار أعظم نعمة على كل الخلق، ولا يعرف أن في الجنة قبله أناساً يعيشون في الجنة من سنين طويلة يتنعمون في نعيم الجنة: (يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: فترفع له شجرة -يرى من بعيد شجرة- فيقول: أي رب! أدنني من هذه الشجرة، لأستظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم! لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها، فيقول: لا يا رب! ويعاهده ألا يسأله غيرها)، هو الآن نجا من النار، ورأى شجرة رفعت له من بعيد، فيريد أن يجلس في ظلها، ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه)، فهو رأى شجرة في منتهى الجمال.
قال صلى الله عليه وسلم: (فيدنيه منها، فيستظل بظلها ويشرب من مائها)، ويجلس على هذه الحال فترة، ثم ماذا؟ (ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى؛ فيقول: أي رب! أدنني من هذه لأشرب من مائها وأستظل بظلها، لا أسألك غيرها)، وكان قال قبل قليل: لن أسأل مرة أخرى، لكن ابن آدم دائماً يريد الأكثر، فيقول الله عز وجل: (يا ابن آدم! ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها!)، وكل لحظة تطلب جديداً، (فيعاهده ألا يسأله غيرها، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة)، أصبح الآن قريباً من الجنة، (ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين؛ فيقول: أي رب! أدنني من هذه؛ لأستظل بظلها، وأشرب من مائها لا أسألك غيرها؛ فيقول: يا ابن آدم! ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ قال: بلى يا رب! هذه لا أسألك غيرها، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها)، الآن أصبح قريباً من الشجرة الثالثة التي على باب الجنة، (فإذا أدناه منها فيسمع أصوات أهل الجنة)، أي: أنه قد قرب من الجنة جداً، فسمع النعيم والسرور فيها، فيشتاق لهذا النعيم والسرور، فيطلب من ربه أن يدخله الجنة، يقول: (أي رب! أدخلنيها؛ فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم! ما يصريني منك؟)، أي: ما الذي يقطع مسألتك عني؟ والصري هو: القطع، والمعنى: متى تكف عن السؤال؟ وكلما تأخذ شيئاً تطلب آخر! ثم يقول الله عز وجل: (أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها)، أي: ليس الدنيا فقط، بل ضعفها، الدنيا ومثلها معها! هذه الدنيا التي تكلمنا عنها في الدرس الماضي، هذه الدنيا الضخمة والواسعة بما فيها من أموال وأراض وغيرها سيأخذ هذا كله، ومثلها معها.
فالرجل الآن نجا من النار، ومن شجرة إلى شجرة، ويريد فقط أن يدخل الجنة، لكن لم يصدق ما هو فيه، فيقول: (أتستهزئ مني وأنت رب العالمين!)، فضحك ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه راوي الحديث ثم قال للناس الجالسين حوله: ألا تسألوني مم أضحك؟! فقالوا: مم تضحك؟! قال: (هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟! قال: من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين، فيقول الله عز وجل: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر)، سبحانه وتعالى! وهناك زيادة لهذا الرجل، ففي صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سأل موسى عليه السلام ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة! فيقول: أي رب! وكيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم)، أي: أنه يرى أن الجنة ملأى، ويرى أن كل مكان في الجنة مشغول، ويرى أن الناس قد دخلوا الجنة من سنين، وكل واحد قد أخذ مكانه، أما أنا فماذا سيبقى لي؟ (فيقال له: أترضى أن يكون ل