إن مما يلفت النظر في الصحابة التوازن في حياتهم، فقد كانوا أيضاً يتفاعلون مع النار مثل تفاعلهم مع الجنة.
فهذا عبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه عند خروجه إلى سرية مؤتة بكى رضي الله عنه وأرضاه والناس يودعونه، فلما رآه الناس وهو يبكي ظنوا أنه خائف من الموت في الجهاد، فقالوا: ما يبكيك؟ قال: أما والله ما بي حب الدنيا -لا تظنوا أني أبكي لأجل الدنيا -لا صبابة بكم-ولا اشتياق لكم- ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار، يقول الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71]، يعني: أن كل الناس ستمر فوق الصراط على النار، ثم يقول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه: فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود؟ يعني: أن الله سبحانه وتعالى قال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:71]، أي: ما يضمن لي أن أطلع منها، وأن أنجو منها والكل سيمر من فوقها.
لماذا تذكَّر هذه الآية الآن؟ لأنه ذاهب إلى الجهاد، ومن المحتمل أن يموت، وفعلاً فقد استشهد في سبيل الله في سرية مؤتة رضي الله عنه وأرضاه، فهو رضي الله عنه كان معايشاً للجنة والنار، فقد كان مشتاقاً إلى الجنة، وخائفاً من النار كأنه من أهل المعاصي، أو أهل النفاق أو أهل الشرك، مع أنه من أعظم الصحابة رضي الله عنه وأرضاه.
ونحن لا بد لنا من الوقوف مع أنفسنا ونسألها: لماذا لا نتفاعل مع الجنة والنار كتفاعل الصحابة؟ نعم نحب الجنة ونخاف من النار، لكن هل قضية الجنة والنار تملأ علينا حياتنا كما كانت تملأ حياة الصحابة؟ هل نعايشها المعايشة التي كان يعايشها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل فعلاً نحن على هذه الحال التي كان عليها الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم؟ لماذا لا نعيش ما عاشه الصحابة؟ جلست أفكر في هذه القضية فقلت لنفسي: لعلنا لا نعرف الجنة التي عرفها الصحابة، يعني: ربما قد تكون مسألة نقص في المعلومات عن الجنة، لذا كان من المؤكد أن الذي يعرف تفصيلات الجنة سيشتاق إليها بصورة أكبر من الذي يعرفها إجمالاً، فيعرف أن الجنة شيء جميل، أو أن النار شيء صعب وخطير وغيرها من المعلومات إجمالاً، لكن الذي يعرف التفاصيل أكيد سيحس أكثر بالمعاني العظيمة عن الجنة.