فهذا ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه، له موقف يهزني فعلاً من الأعماق، حتى ولو تكررت قراءتي له فإنني سأقف مذهولاً أمام هذا العملاق ربيعة بن كعب رضي الله عنه وأرضاه، مع أن كثيراً منا ربما لا يسمع عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه.
ربيعة بن كعب هو: خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاب صغير جداً، فعمره دون العشرين، وهو من أهل الصفة، وخبرته في الحياة قصيرة، ليس أبا بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، ولا أي واحد من الكبار الذين نسمع عنهم، وإنما هو من عوام الصحابة.
وعلاوة على أنه صغير في السن، فهو من أهل الصفة، يعني: من الناس الفقراء جداً الذين ليس لهم بيوت، وإنما قد اتخذوا المسجد بيتاً، فيصرف عليهم أهل الخير في المدينة المنورة، وأيضاً ليس بمتزوج، بل إنه معدم لا يجد ما يسد رمقه في كل يوم، فلو كان أحدنا مكان ربيعة بن كعب ماذا كان سيتمنى؟ تخيل كم من الأحلام والآمال والأمنيات التي من الممكن أن تكون عند هذا الإنسان، لكن قبل ذلك اسمع معي هذه القصة التي وردت في صحيح مسلم وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله جميعاً، يقول ربيعة بن كعب رضي الله عنه: (كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع -طوال النهار هو شغال في خدمة النبي عليه الصلاة والسلام- حتى يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة -أي: صلاة العشاء- فأجلس ببابه إذا دخل بيته)، فالرسول بعد صلاة العشاء يذهب إلى بيته؛ لأن الحركة في المدينة المنورة تنتهي بعد العشاء بالنوم، لأجل يبتدئوا يومهم قبل الفجر بقيام الليل، ثم صلاة الفجر ويبتدئ اليوم بصورة طبيعية، ثم قال رضي الله عنه: (لعلها أن تحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة)، وانظر إلى أي درجة وصل التفاني في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ربيعة: فما أزال أسمعه يقول: سبحان الله سبحان الله سبحان الله وبحمده، وفي رواية: الحمد لله رب العالمين، يعني: طيلة جلوسه وهو في ذكر صلى الله عليه وسلم، يقول ربيعة: حتى أمل؛ فأرجع، أو تغلبني عيني فأرقد، إما أن أمل من طول القيام وأذهب إلى المسجد للنوم، أو أبقى في مكاني وأنام على باب بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من طول المقام.
فالرسول عليه الصلاة والسلام عندما رأى ربيعة وهو ذاهب وآت في خدمته، قال ربيعة: فقال لي يوماً -لما يرى من خفتي له وخدمتي إياه-: يا ربيعة! سلني أعطك، أي: اطلب يا ربيعة! تمن يا ربيعة! قل ماذا تريد؟ وتخيل نفسك مكان ربيعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رئيس المدينة المنورة ورئيس الدولة يقول لك: اطلب يا فلان! والذي تريده أنا سأحاول أن أوفره لك، سل يا فلان أعطك.
ثم انظر إلى فقره وحاجته الشديدة؛ لا يجد ما يأكل أو يشرب أو يلبس أو يتزوج، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول له -وهو رئيس الدولة بالمدينة المنورة-: اطلب يا ربيعة! ولنتأمل ربيعة بن كعب رضي الله عنه وأرضاه على هذا العرض المغري من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول ربيعة: فقلت: أنظر في أمري يا رسول الله! ثم أعلمك ذلك، يعني: أعطني فرصة لأفكر، يقول ربيعة: ففكرت في نفسي فعرفت.
وانتبه هنا وضع في ذهنك الخلفية التي صورتها لك لحالة ربيعة بن كعب الأسلمي من ناحية الإمكانيات المادية، ومن ناحية الوضع الاجتماعي في المدينة المنورة، يقول: ففكرت في نفسي فعرفت أن الدنيا منقطعة زائلة، وتذكرون المحاضرة التي سبقت: الصحابة والدنيا، وانظر إلى هذا الشاب الصغير كيف أنه فاهم لحقيقة هذه الدنيا جيداً، يقول: فعرفت أن الدنيا منقطعة زائلة، وأن لي فيها رزقاً سيكفيني ويأتيني، أي: إن الله لن يتركني وسيكفيني ويأويني، يقول ربيعة: فقلت: أسال رسول الله صلى الله عليه وسلم لآخرتي، إذا كانت الدنيا ستأتيني هكذا أو هكذا، والله قد كتب لي فيها شيئاً ما، فلماذا أسأله الدنيا؟ فتأمل ما مقدار ما يفكرون به، يقول: لو أن الله كتب لي رزق فسيأتيني، أو زوجة فستأتيني، أو بيتاً فسيأتيني، إذاً فلماذا لا أسأله عن الحاجات الصعبة على كل مسلم ومسلمة وكل مؤمن ومؤمنة، ألا وهي الجنة.
قال: أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لآخرتي؛ فإنه من الله عز وجل بالمنزل الذي هو به، أي: هو رسول الله الذي إذا سأل الله تعالى استجاب له، ثم قال: فجئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعلت يا ربيعة! أي: هل فكرت في الطلب الذي تريده؟ يقول ربيعة: فقلت: نعم يا رسول الله! فقال: