تعالوا لنختم هذه المحاضرة بقصة يعرفها الكثير منكم، لكن سنعلق على جانب صغير معين فيها، وتفاصيلها سنقوله في درس: الصحابة والتوبة، وقد قلنا تفاصيلها قبل هذا في دروس السيرة النبوية.
إنها قصة استجابة المسلمين لمقاطعة الثلاثة المخلفين في غزوة تبوك، وهي مثل رائع للجانب العملي عند الصحابة الكرام، فقد كان هذا التخلف نزغة من نزغات الشيطان، فقد تخلف كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع رضي الله عنهم أجمعين، ونزل الوحي بعقابهم عن طريق المقاطعة، فكان عقاباً صعباً جداً، ولم يحصل في حياة الصحابة إلا في هذه المرة فقط.
يقول كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا.
فلا أحد يكلم هؤلاء الثلاثة، وهنا حدثت استجابة سريعة وكاملة وعجيبة جداً من أهل المدينة جميعاً، فلا جدال ولا نقاش ولا مبررات ولا تعليلات لا استثناءات ولا وساطة، بل ولا أحد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا رجل من السابقين، هذا من المكافحين، من أهل العقبة، لم يقل أحد أي شيء من هذا الكلام، بل قالوا: سمعنا وأطعنا.
ولم يأت أيضاً أحد من عائلته أو أرسل له كرتاً وأعطاه إياه، ولا كان شيء من ذلك، فقطعت مصالح كثيرة، وكل واحد من هؤلاء له علاقات كثيرة، يتاجر مع هذا ويشتغل مع هذا، ومتزوج من بيت فلان، وقريب من هذا، لكن ليس ذلك مشكلة، فلتهدم كل المصالح ولا تهدم الطاعة، والمهم الطاعة لله عز وجل، والطاعة لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فلم ينفع رحم، ولم تنفع صداقة، فنفذت المقاطعة بشكلها الواسع والعجيب في المدينة المنورة، وكل أهل المدينة قاطعوا الثلاثة، يقول كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: فاجتنبنا الناس.
أي: تجنبوا حتى طريقهم، ثم قال: وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي بالتي أعرف.
أي: هل هذه هي المدينة المنورة أم أنها ليست هي؟ وكأن الأرض التي ولد فيها وعاش فيها سنين وسنين لم يأت إليها قبل الآن، والشيء الغريب جداً أن كل الناس في المدينة قد سمعوا وأطاعوا، وهذا هو جيل الصحابة الكرام: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، فليس لهم أي اختيار أبداً، لكن هل ظل ذلك يوماً أو يومين؟ لا، بل بقي كثيراً جداً، يقول كعب بن مالك: فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.
فترة طويلة جداً، وبالذات داخل مجتمع صغير مثل المدينة، وهو مجتمع اجتماعي، وليس كمجتمعاتنا في هذا الزمان، ففي أيامنا قد تجد أن بعض الجيران لا يعرف جاره، لكن في جيل الصحابة كان الجميع كأسرة واحدة، فالمقاطعة في هذه البيئة كانت صعبة جداً، فتفاقم الأمر مع كعب بن مالك رضي الله عنه الله عنه وأرضاه، يقول: حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي، فسلمت عليه.
أي: أنه ذهب إلى أقرب شخص وأحب شخص إليه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مطمئن إلى أنه لن يقاطعه، قال: فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام! ورد السلام فرض، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام ألغى هذا الأمر في هذه الحالة الاستثنائية فقط، فمنع الناس من الكلام حتى السلام، يقول: فقلت: يا أبا قتادة! أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟! وأبو قتادة لا يرد.
يعني: هل تظنني قد غلطت لأجل أنني منافق، في داخلي كراهية لله وللرسول، أم أن هذه غلطة عابرة وأنا أحب الله ورسوله؟ فهو يسأله سؤالاً واضحاً جداً، فيريد منه رأيه: نعم أم لا.
يقول كعب: فسكت.
أي: المرة الثانية، ثم قال: فعدت له فنشدته.
أي: في المرة الثالثة، ثم قال أبو قتادة: الله ورسوله أعلم.
أي: لا أدري، وهي كلمة رهيبة جداً، أي: أنه لا يعلم إيمان كعب، فهو يشك في إيمانه وليس واثقاً منه، وكان هذا أشد على كعب من السكوت، فتمنى أنه لم يتكلم وبقي ساكتاً، لكن أراد أبو قتادة أن يبعد كعباً عنه تماماً؛ وذلك حتى لا يصر على كلامه، فأقفل عليه الباب وقال له: الله ورسوله أعلم.
وفي هذا استجابة شديدة لأوامر الله تعالى، وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، استجابة إلى درجة عظيمة وعالية، مع أنه أحب الناس في المدينة إلى كعب بن مالك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول كعب: ففاضت عيناي.
أي: أنه لم يقدر على التحمل، فقام والألم والحزن والاكتئاب يعتصر قلبه، وقد استمر هذا الوضع خمسين ليلة، ولاحظ كل هذه الاستجابة، وكل هذه الطاعة، وكل هذه المقاطعة إلا أنهم بعد خمسين ليلة من المقاطعة صدر الأمر الإلهي بالعفو عن الثلاثة الذين خلفوا، وهنا رفع الحظر عنهم، وسمح لأهل المدينة بالحديث معهم، وكل ما