وهذا موقف آخر لأحد الصحابة نرى منه أنهم ما كانوا يجادلون في الذنب، إلا فقط في تبرير الموقف الفعلي الذي كان فيه، لكن لما يتضح له أنه ذنب يسرع بالتوبة، هذا الموقف لـ أسامة بن زيد رضي الله عنهما، كما عند البخاري ومسلم وغيرهما أنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فصبحنا الحرقات من جهينة- مكان- فأدركت رجلا، وفي رواية: فكان منهم رجل إذا أقبل القوم كان من أشدهم علينا، وإذا أدبروا كان من أشد الناس حماية لهم، يعني: أن هذا الرجل عندما يهجم مع المشركين على جيش المسلمين يكون من أشد الناس ضرراً بالمسلمين، وعندما يرجع وينسحب جيش المشركين يكون من أشد الناس حماية لهذا الجيش.
وفي رواية أخرى: أنه قتل عدداً كبيراً من المسلمين، يعني: أنه كان رجلاً شديد السطوة، وشديد القوة على الإسلام والمسلمين، يقول أسامة: فغشيته أنا ورجل من الأنصار، أي: استحكمنا منه ولم يبق لنا إلا قتله، فقال: لا إله إلا الله، وانظر إلى الموقف، فقد كان في منتهى الوضوح في عيون كل المشاهدين للحدث، فسيدنا أسامة بن زيد يجري وراءه من أول القتال حتى أمسك به هو والأنصاري، ووضعوه أمامهم من أجل أن يقتلوه، والرجل إلى هذه اللحظة كان شديداً جداً على المسلمين، وقد قتل عدداً كبيراً من المسلمين، فقتله أسامة وكف عنه الأنصاري عندما سمع منه كلمة: لا إله إلا الله، يقول أسامة: فوقع في نفسي من ذلك، وخفت لو أني عملت ذنباً، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أقال لا إله إلا الله وقتلته! فقال أسامة: يا رسول الله، إنما قالها خوفاً من السلاح)، يقول المبرر الحقيقي الذي عنده، وفي رواية: (يا رسول الله أوجع في المسلمين، وقتل فلاناً وفلاناً وفلاناً، وسمى له نفراً، وإني حملت عليه فلما رأى السيف قال: لا إله إلا الله، فقال صلى الله عليه وسلم: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها متعوذاً أم لا)، وفي رواية: (وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة).
وهنا أسامة بن زيد رضي الله عنه لم يكرر التبرير عندما وضح له بالفعل أنه لم يشق عن قلبه، ولأنه لا يعلم خفايا القلوب إلا الله عز وجل، واحتمال أنه قالها فعلاً من قلبه، لكن الشواهد كلها تشير إلى غلبة الظن من أن الرجل قال الكلمة خوفاً من السلاح، وكل هذا يبقى ظناً ولا سبيل إلى التيقن من صدق الرجل أو كذبه، وعند ذلك قال أسامة مباشرة: يا رسول الله استغفر لي.
ولم يعمد إلى افتعال جدل طويل ومناقشات ومحاورات، وإنما اعتراف بالخطأ، ثم قال أسامة: حتى تمنيت أني لم أسلم قبل ذلك، أي: يا ليتني أسلمت هذا اليوم، حتى لا يكون في صحيفتي هذه الجريمة الكبرى، فلم يجلس يبرر فيها، مع أنه كما نرى كل الملابسات تقول: إن الغالب على الظن أن الرجل قال الكلمة خوفاً من السلاح، لكن لا أحد كشف لنا عن قلبه.