وهذا مثال آخر: عمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه، وقصته معروفة مع المشركين، وذلك عندما سلط عليه المشركون أشد أنواع التعذيب في مكة، ولم يكن ذلك العذاب له وحده، بل لكل العائلة، لأبيه ولأمه، فقد وضعوا الصخر الملتهب على صدره، وضربوه ضرباً شديداً، وقاموا بقتل والديه أمامه، ياسر وزوجته سمية رضي الله عنهما، وطلبوا منه أن يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمام هذا القهر والتعذيب والإكراه الحقيقي، والقتل الفعلي الذي حدث لأعز الناس لديه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمام الألم الرهيب الذي كان يحس به في كل ذرة من جسده، قال ما أراده الكفار منه، وسب محمداً صلى الله عليه وسلم، سبه بلسانه مع أن قلبه لا يُقِّدم عليه أحداً من خلق الله ولا حتى نفسه التي بين جنبيه، ومع أن الموقف سليم شرعاً، يعني: لو أن أحدنا تعرض للتعذيب والإكراه ليقول هذه الكلمة لجاز له ذلك ما دام القلب مطمئناً بالإيمان، لكن هو رضي الله عنه لم يكن يعلم أن هذا الموقف سليم شرعاً، فحسب أن هذا العمل كان خطأ، وإن كان ليس خطأ في حق الشرع، فجاء مسرعاً باكياً معتذراً تائباً لمجرد أن تركه الكفار، فشكى حاله للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ويعتذر إليه مما فعل، وقال له: قد قلت فيك كذا وكذا، فقال الرحيم الحكيم صلى الله عليه وسلم الرحيم: (كيف تجد قلبك، قال عمار: أجده مطمئناً بالإيمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن عادوا فعد، فأنزل الله عز وجل قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل:106] إلى آخر الآيات).
لذلك فإن قضية التوبة من قريب قضية في منتهى الخطورة بالنسبة للمؤمنين، لأن مرتكب الذنب حال ارتكابه يكون على خطر عظيم، وتأمل هذا الحديث المخوف الذي ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن).
يعني: لا يسرق سرقة والناس تنظر إليه ولا تكلمه، لأنه صاحب سلطان وقهر، لا يكون مؤمناً، وليس المقصود أنه صلى الله عليه وسلم يكفر المؤمن بهذه المعاصي وإنما المراد أن إيمانه ينتقص انتقاصاً شديداً، فيتذبذب إلى الحد الذي قد يخرجه بعد ذلك من الإيمان إلى الكفر.
وفي الحديث أيضاً الذي رواه البيهقي وابن حبان وصححه، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث)، وفي آخر الحديث قال: (وإنها لا تجتمع هي والإيمان إلا وأوشك أحدهما أن يخرج صاحبه) فالمعصية الكبيرة التي يصر عليها الإنسان مرة ومرتين وثلاث، يكون بها متذبذب الإيمان، ويوشك أحدهما أن يخرج الآخر، إما أن المعصية تخرج الإيمان بالكلية فيصير الإنسان كافراً، وإما العكس، فموقف خطير جداً، نعم ارتكاب المعاصي ليس مكفراً في حد ذاته، لكنه قد يقود إلى الكفر، وبالذات لو باغت الموت إنساناً وهو يرتكب المعصية، ولذلك فكثيراً ما نسمع عمن مات وهو يشرب الخمر، أو مات وهو يزني، أو مات وهو يسرق أو يقتل، أو ما إلى ذلك من الموبقات، وفي كل هذه الأحوال يكون على خطر عظيم، روى الإمام مسلم رحمه الله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يبعث كل عبد على ما مات عليه)، فجرم عظيم أن يموت الإنسان على معصية ثم يبعث عليها، من أجل ذلك فإن قضية التوبة من قريب قضية في منتهى الأهمية، والصحابة كانوا فاهمين جداً، لهذه السمة أو الصفة.