وسأذكر مثالاً أخيراً في هذه المحاضرة لـ خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه في موقف من أعجب المواقف في التاريخ الإسلامي، هذا الموقف في موقعة اليرموك وقد كانت بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين.
تقول الرواية: خرج قائد روماني اسمه جرجة -بفتح الجيم والراء وفتح الجيم الثانية- مكتوب اسمه هكذا في الكتب الإسلامية القديمة، وقد تكون تحريفاً لكلمة جورج، فوقف القائد بين الصفين، وفي ذلك الوقت كان الجيش الإسلامي يقف في ناحية، والجيش الروماني يقف في الناحية الأخرى وبينهم فراغ، وكان في أول اللقاء يحصل مبارزة أو نوع من النزال الفردي، وهو نوع من إظهار القوة، فخرج هذا القائد الروماني ونادى وقال: ليخرج إلي خالد بن الوليد، وكان من الممكن أن يقول خالد بن الوليد: إن هذه مكيدة ومؤامرة، لكنه رضي الله عنه ما كان يتردد أبداً عن طلب للقتال أو النزال، فخرج رضي الله عنه وهو قائد الجيش، (فوافقه بين الصفين حتى اختلفت أعناق دابتيهما) يعني: أنهم وقفوا أمام بعض حتى التصقت الدواب ببعضها البعض، (وقد أمن أحدهما صاحبه)، يعني: أن كل واحد منهم قال للآخر: أنا لا أريد قتالاً، وإنما نريد أن نتكلم ونتفاهم ونتحاور ونتناقش في وسط أرض القتال، وكل واحد منهم رافعاً ترسه أمام صدره لكي يحمي نفسه من خيانة الطرف الآخر، فقال جرجة: يا خالد اصدقني ولا تكذبني؛ فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني؛ فإن الكريم لا يخادع المسترسل بالله.
يعني: أنا أستحلفك بالله أن لا تخون الأمانة ولا تكذب، وإنما قل الصدق.
ثم قال: (هل أنزل الله على نبيكم سيفاً من السماء فأعطاكه فلا تسله على قوم إلا هزمتهم؟) سؤال في منتهى الغرابة، أي: يا ترى هل أنزل الله على نبيك سيفاً وأنت أخذت هذا السيف، فلا تقاتل به أحداً إلا انتصرت؟ ومعلوم أن انتصارات خالد بن الوليد كانت انتصارات مذهلة، والرومان كانوا لا يتخيلون أن رجلاً ينتصر بهذه الصورة، سواء في بلاد فارس أو في بلاد الروم، وانتصارات وراء انتصارات، وبأعداد وعدة قليلة جداً على جيوش هائلة جداً، فـ جرجة الروماني مستغرب جداً فيستحلفه بالله، هل هو يقاتل بسيف غير سيوف أهل الأرض، بسيف رباني وليس سيفاً طبيعياً ولذلك ينتصر؟ فقال خالد بن الوليد: لا.
قال: فبم سميت سيف الله؟ وانتبه لرد خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، فهو رد في منتهى البراعة والحكمة والفقه لقضية الدعوة، ولأنه شعر أن جرجة هذا يتكلم بلسان غريب عن قومه، وفي قلبه نوع من الميل إلى الإسلام، وفي قلبه نوع من الشك فيما عليه الرومان من دين، وعنده نوع من التفاؤل، ونوع من الطموح، فسيدنا خالد بن الوليد يكلمه كلاماً في منتهى الروعة، وفي أرض اليرموك، والجيوش مصطفة عن ناحيتين، هذا جيش الرومان أمامه وهذا جيش المسلمين خلفه.
قال سيدنا خالد: (إن الله عز وجل بعث فينا نبيه صلى الله عليه وسلم فدعانا، فنفرنا عنه ونأينا منه جميعاً، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا باعده وكذبه، فكنت فيمن كذبه وباعده وقاتله)، فيقول له هذا الكلام، لأن تاريخه مثل تاريخه، ومثلما هو الآن يحارب الإسلام، فهو قد حارب الإسلام من قبل، ولكن الله سبحانه وتعالى غيَّره وممكن أن يغيِّر جرجة، ونقله هذه النقلة العظيمة حتى أصبح رجلاً منصوراً متبعاً لكلام الله عز وجل، وممكن أن يغيِّر جرجة أيضاً حتى وإن كان يحارب المسلمين سنين وسنين.
يقول: (ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا، فهدانا به فتابعناه، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت سيف من سيوف الله سله على المشركين، ودعا لي بالنصر)، فهذا هو سبب النصر، وليس مهارة مني ولا شطارة ولا حرفة.
ثم قال: (فسميت سيف الله بذلك، فأنا من أشد المسلمين على المشركين.
قال جرجة: صدقتني)، أي: أن الكلام فيه صدق، ودخل الكلام قلب جرجة، لأنه كان عنده النية والطموح لأن يُسلم، فدخل الكلام في قلبه وقال: صدقتني.
ثم أعاد عليه جرجة وقال: يا خالد! أخبرني إلام تدعو؟ قال خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله.
قال جرجة: (فمن لم يجبكم؟ قال: فالجزية ونمنعهم.
قال: فإن لم يعطها؟ قال: نؤذنه بحرب ثم نقاتله.
قال جرجة: فما منزلة الذي يدخل فيكم ويجيبكم إلى هذا الأمر اليوم؟) وهنا أصبح ظن سيدنا خالد في محله، فالرجل فعلاً كان يفكر في الإسلام والكلام قد دخل في قلبه.
قال خالد: (منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا، شريفنا ووضيعنا، وأولنا وآخرنا)، أ