إذا كان مستحيلاً في مصطلح أهل الحديث أن تكون صحابياً، فكيف تكون صحابياً في عقيدتك في إيمانك في أفكارك في فهمك لهذا الدين في طموحاتك وأهدافك في حميتك للإسلام في غيرتك على حرمات المسلمين، في التطبيق لكل صغيرة وكبيرة في هذا الدين؟ المقصود في هذه المجموعة أن نفقه الأسباب الحقيقية التي جعلت من الصحابة صحابة، فليس فضل الصحابة فقط أنهم عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاشوا معه في نفس الفترة الزمنية، فقد عاصره أبو جهل وأبو لهب والوليد بن المغيرة وعقبة بن أبي معيط وغيرهم من المشركين، وإنما يرجع فضل الصحابة إلى التزامهم بتعاليم هذا الدين التزاماً حرفياً، واتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم اتباعاً دقيقاً، وحبهم لهذا الشرع حباً خالصاً صادقاً حقيقياً.
والمقصود في هذه المجموعة أن نكون قوماً عمليين، لا أن يكون همنا فقط أننا نسمع الحكايات ونتندر بالروايات، وإنما همنا أن نصل إلى ما وصل إليه هؤلاء العمالقة أو قريباً مما وصلوا إليه، هذا هو المقصود من كلمة: كن صحابياً، وهذا هو المقصود من
Q هل أنت صحابي؟ وقد قال لي أحد أصحابي شيئاً غريباً جداً، ولعل ذلك الشيء الغريب هذا هو سبب تحضير كل هذه المجموعة من المحاضرات، قال: إنني كلما قرأت قصص الصحابة أو استمعت إليها أصابني اليأس والإحباط.
فقلت: سبحان الله! هذا عكس المراد تماماً، فنحن نقرأ سير الصحابة والصالحين لكي نتحمس للعمل ولكي ننشط عند الفتور، ثم قلت له: لماذا تشعر بهذا الإحساس؟ قال: لأنني كلما قرأت عن الصحابة وجدت لهم أعمالاً يستحيل علينا فعلها، ووجدت إصراراً على الجهاد، ووجدت ثباتاً على الإيمان، ووجدت عزيمة على الصيام والقيام والبذل والعطاء، ووجدت مواصلة لأعمال البر والخير، ليلاً ونهاراً وصيفاً وشتاءً، ليس هناك فرق بين مرحلة الطفولة ومرحلة الشباب ومرحلة الكهولة أو الشيخوخة، فالجهد كله لله عز وجل، والمال كله في سبيل الله، والفكر كله في سبيل الله، وتستطيع أن تقول: الحياة كلها في سبيل الله، فعندما أجد ذلك أشعر بضعفي الشديد وبُعدي عن طريقهم، فيسيطر عليَّ الإحباط واليأس.
انتهى كلام صاحبي هذا.
فقلت له: والله أنا معك في نصف كلامك وأتفق معك فيه تماماً، وأما النصف الثاني فأنا أختلف معك فيه اختلافاً جذرياً، فكما تقول: إن الصحابة جيل فريد، وحياة عجيبة، وعطاء ما انقطع لحظة، ولذلك فقيمته عالية وغالية جداً، ويكفي أن تسمع إلى قول الله عز وجل وهو يقول في حق المهاجرين والأنصار: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]، وانتبه فالله عز وجل لم يذكر شرط الإحسان في عمل الصحابة، وإنما شرط الإحسان في التابعين لهم، فقال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]؛ لأن الصحابة كلهم قد عملوا بإحسان، وهذا معلوم ضمناً من حال الصحابة، فتأمل الدرجة كيف هي عالية وغالية عند الله سبحانه وتعالى وعند الرسول وعند كل المؤمنين، وهذا هو الذي أتفق فيه معك، لكن ما أختلف فيه معك هو الشعور بالإحباط واليأس عند سماع هذه الحكايات وعند قراءة هذه السيرة، فبدلاً من الإحباط واليأس هناك شيء أفضل من ذلك، ألا وهو أن نشغل أنفسنا بمعرفة كيف سبق السابقون؟ وكيف اللحاق بهم؟ والمسألة بالعقل، وتعالوا لنُفكر معاً، فنقول: ما دام أن الصحابة قد ساروا في طريق معروف وواضح، وهذا الطريق موصوف لنا كما وصف لهم، وذلك في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، إذاً فالتعرف على الطريق والسير فيه يضمن لنا أن نصل إلى ما وصلوا إليه، والمثال يوضح ذلك: فلو قلت لك: امش في هذا الطريق ولا تتجه يميناً ولا يساراً، وستجد نفسك في الإسكندرية، طريق مستقيم من هذه النقطة إلى تلك النقطة، وأي واحد سيسلكه سيوصله إلى الإسكندرية، وكذلك الصحابي مشى في الطريق ولم يتجه يميناً ولا يساراً، حتى وصل إلى ما كان يريد أن يصل إليه، والذي منا سيمشي في نفس الطريق من غير أن يتجه يميناً ولا شمالاً سيصل إلى نفس الذي وصل إليه الصحابة، ولذلك فإن المشكلة أننا كثيراً ما نتجه يميناً ويساراً، فمرة تريد أن تستكشف طرقاً جانبية فتبتعد عن الطريق المستقيم، ومرة تفكر أنك أذكى من الشرع تستطيع أن تأخذ طرقاً مختصرة لتصل سريعاً، بينما الأصل أن الطريق المستقيم هو أقصر الطرق، وطريق الشرع هو دائماً الطريق المستقيم من غير يمين ولا شمال، وانظر إلى ربنا وهو يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، تقولها سبع عشرة مرة على الأقل كل يوم في صلاتك، وذلك حتى تتربى وتتعلم.
ويقول الله تعالى: ((