وإخلاصهم، وهكذا الاستفتاح، وبهذا يكون هذا الحديث ـ إن صح ـ دليلًا على التوسل المشروع، وحجة على التوسل المبتدع، والحمد لله.
الحديث السادس: عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مرفوعًا: «لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال: يا آدم ! وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه؟ قال: يا رب لما خلقتني بيدك، ونفخت في من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوبًا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضِف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال: غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتُك».
أخرجه الحاكم في (المستدرك) (2/ 615) من طريق أبي الحارث عبد الله بن مسلم الفهري: حدثنا إسماعيل بن مسلمة: أنبأ عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر. وقال: (صحيح الإسناد وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب).
فتعقبه الذهبي فقال: «قلت: بل موضوع، وعبد الرحمن واهٍ، وعبد الله بن أسلم الفهري لا أدري مَن ذا»
قال الشيخ الألباني: ومن تناقض الحاكم في (المستدرك) نفسه أنه أورد فيه حديثًا آخر لعبد الرحمن هذا ولم يصححه، بل قال: «والشيخان لم يحتجا بعبد الرحمن بن زيد!».
قال الشيخ الألباني: «والفهري هذا أورده الذهبي في (الميزان) وساق له هذا الحديث وقال: «خبر باطل»، وكذا قال الحافظ ابن حجر في (اللسان) (3/ 360) وزاد عليه قوله في الفهري هذا: «لا أستبعد أن يكون هو الذي قبله فإنه من طبقته» قلت (أي الشيخ الألباني): «والذي قبله هو عبد الله بن مسلم بن رُشيد، قال الحافظ: ذكره ابن حبان، متهم بوضع الحديث، يضع على ليث ومالك وابن لهيعة، لا يحل كتب حديثه».
قال الشيخ الألباني «والحديث رواه الطبراني في (المعجم الصغير):ثنا محمد بن داود بن أسلم الصدفي المصري: ثنا أحمد ابن سعيد المدني الفهري: ثنا عبد الله بن إسماعيل المدني عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم به. وهذا سند مظلم فإن كل من دون عبد الرحمن لا يعرفون.
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيرًا، ضعفه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني، وغيرهم. وقال ابن حبان: «كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك من روايته من رفع المراسيل، وإسناد الموقوف، فاستحق الترك».
وأما تصحيح الحاكم لمثل هذا الحديث وأمثاله فهذا مما أنكره عليه أئمة العلم بالحديث، وقالوا: إن الحاكم يصحح أحاديث موضوعة مكذوبة عند أهل المعرفة بالحديث. ولهذا كان أهل العلم بالحديث لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم.
تنبيه هام: قال الشيخ الألباني: وقد أورد الحاكم نفسه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في كتابه (الضعفاء) كما سماه العلامة ابن عبد الهادي، وقال في آخره: «فهؤلاء الذين قدمت ذكرهم قد ظهر عندي جرحهم، لأن الجرح لا يثبت إلا ببينة، فهم الذين أبين جرحهم لمن طالبني به، فإن الجرح لا أستحله تقليدًا، والذي أختاره لطالب هذا الشأن أن لا يكتب حديث واحد من هؤلاء الذين سميتهم، فالراوي لحديثهم داخل في قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبَيْن» (رواه مسلم)
فمن تأمل في كلام الحاكم هذا والذي قبله يتبن له بوضوح أن حديث عبد الرحمن بن زيد هذا موضوع عند الحاكم نفسه، وأن من يرويه بعد العلم بحاله فهو أحد الكاذبَيْن. فلا يجوز لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصحح الحديث بعد اتفاق هؤلاء على وضعه تقليدًا للحاكم في أحد قوليه، مع اختياره في قوله الآخر لطالب العلم أن لا يكتب حديث عبد الرحمن هذا، وأنه إن فعل كان أحد الكاذبين كما سبق.
* قال الشيخ الألباني: «للحديث علتان:
الأولى: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأنه ضعيف جدًا.
الثانية: جهالة الإسناد إلى عبد الرحمن.
وللحديث عندي علة أخرى. وهي اضطراب عبد الرحمن أو من دونه في إسناده، فتارة كان يرفعه، وتارة كان يرويه موقوفًا على عمر، لا يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -».
* ثم على افتراض أن هذا الحديث ضعيف فقط كما يزعم بعض المخالفين ـ خلافًا لمن سبق ذكرهم من العلماء والحفاظ ـ فلا يجوز الاستدلال به على مشروعية التوسل المختلف فيه، لأنه ـ على قولهم ـ عبادة مشروعة، وأقل أحوال العبادة أن تكون مستحبة، والاستحباب حكم شرعي من الأحكام الخمسة التي لا تثبت إلا بنص صحيح تقوم به الحجة.
شيء عجيب: يعجب المسلم من اهتمام الصوفية بالقصص المختلَقة، وتتبعهم للحكايات المخالفة للنصوص المعتبرة، وعدم رفع الرأس بالآيات القامعة لأباطيل عقائدهم، وعزوفهم وتأويلاتهم للأحاديث الصريحة الصحيحة؛ بقصص وأحاديث مكذوبة موضوعة!! ثم هم يزعمون المحبة؟! أي محبة في عدم الاتباع، وبناء العقائد على الحكايات التي لا ترتفع إلى الضعف ـ في الغالب ـ فما بالك إلى الصحة، ظلمات موضوعة، وقصص مكذوبة!
* يُروى عن الإمام مالك بن أنس - رحمه الله - قصة مع أبي جعفر المنصور العباسي يعتقد الصوفية أنها تؤيد احتجاجاتهم بتوسلاتهم بذوات المخلوقين، وفيها: «أنه ـ أي أبو جعفرـ سأل مالكاً فقال: يا أبا عبدالله، أأستقبل القبلة وأدعوا، أم أستقبلُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ فقال: ولِمَ تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلةُ أبيك آدم - عليه السلام - إلى الله تعالى يوم القيامة؛ بل استقبله واستشفع به، فيشفعه الله».
الكلام على سند هذه القصة:
هذه القصة أخرجها القاضي عياض في (الشفا) باسناده عن الإمام مالك. وهي ليست بصحيحة عنه، بل إسنادها إسناد مظلم منقطع، وهو مشتمل على من يتهم بالكذب وعلى من يجهل حاله، فابن حميد هو محمد بن حميد الرازي، وهو ضعيف كثير المناكير غير محتج بروايته، ولم يسمع من مالك شيئاً ولم يلقه؛ بل روايته عنه منقطعة غير متصلة.
وقد تُكُلِّم في محمد بن حميد الرازي ـ وهو الذي رويت عنه هذه الحكاية ـ من غير واحد من الأئمة، ونسبه بعضهم إلى الكذب.
قال يعقوب بن شيبة السدوسي: محمد بن حميد الرازي كثير المناكير. وقال البخاري: حديثه فيه نظر. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: ردئ المذهب، غير ثقة.
وقال أبو القاسم عبدالله بن محمد بن عبدالكريم الرازي ابن أخي أبي زرعة: سألت أبا زرعة عن محمد بن حميد فأومأ بأصبعه إلى فمه، فقلت له: كان يكذب؟ فقال برأسه: نعم. قلت له: قد شاخ، لعله كان يعمل عليه ويدلس عليه؟ فقال: لا يا بني، كان يتعمد.
وقال أبو حاتم الرازي: حضرت محمد بن حميد وحضره عون بن جرير، فجعل ابن حميد يحدث بحديث عن جرير فيه شِعر، فقال عون: ليس هذا الشعر في الحديث، إنما هو من كلام أبي. فتغافل ابن حميد فمر فيه.
وقال أبو نعيم عبدالملك بن محمد بن عدي: سمعت أبا حاتم محمد بن إدريس الرازي في منزله وعنده عبدالرحمن بن يوسف بن خراش وجماعة من مشايخ أهل الري وحفاظهم للحديث، فذكروا ابن حميد، فأجمعوا على أنه ضعيف في الحديث جدًا، وأنه يحدث بما لم يسمعه وأنه يأخذ أحاديث لأهل البصرة والكوفة فيحدث به الرازيين.
فهذه حال محمد بن حميد الرازي عند أئمة هذا الشأن، ورغم ذلك يزعم أحد دعاة الصوفية المعاصرين أن سندها صحيح. فالقصة مكذوبة، وسندها غريب.
وهذه الحكاية أيضًا منقطعة؛ فإن محمد بن حميد الرازي لم يدرك مالكًا لا سيما في زمن أبي جعفر المنصور. وفي الإسناد أيضاً من لا يعرف حاله.
هذه الحكاية لم يذكرها أحدٌ من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه، ومحمَّد بن حميد ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند، فكيف إذا أرسل حكاية لا تُعرف إلا من جهته!!.
هذا إن ثبت عنه، وأصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل لا يثبت عن مالك قول له في مسألة في الفقه.
الكلام على متن القصة: قوله: «أستقبل القبلة وأدعوا أم استقبل رسول الله وأدعو؟» فقال: «ولِمَ تصرفُ وجهَكَ عنه، وهو وسيلتُكَ ووسيلةُ أبيكَ آدم».