* ثانيها: أن معناها سيرى في اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة أو التعبير.
* ثالثها: أنه خاص بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه.
* رابعها: أنه يراه في المرآة التي كانت له إن أمكن ذلك، وهذا من أبعدالمحامل.
* خامسها: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية لا مطلق من يراه.
* سادسها: أنه يراه في الدنيا حقيقة ويُخاطبه، وفيه ما تقدم من الإشكال.»
الوجه الثالث: ما يَرِدُ على الصوفية من الإشكال على المعنى الذي قالوا به: والإشكال أشار إليه ابن حجر - رحمه الله - بقوله: «ونُقل عن جماعة من الصالحين أنهم رأوا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في المنام ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين فأرشدهم إلى طريق تفريجها فجاء الأمر كذلك. قلت (أي الحافظ ابن حجر):وهذا مُشكِل جدًا ولو حُمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة، ويُعَكّرُ عليه أن جمعًا جمًا رأوه في المنام ثم لم يُذكَر عن واحد منهم أنه رآه في اليقظة وخبر الصادق لا يتخلف. وقد أشتد إنكار القرطبي على من قال: من رآه في المنام فقد رأى حقيقته ثم يراها كذلك في اليقظة». (فتح الباري) (12/ 385) (.
والإنكار الذي أشار إليه ابن حجر هو قول القرطبي: «اختُلِفَ في معنى الحديث: فقال قوم هو على ظاهره فمن رآه في النوم رأى حقيقته كمن رآه في اليقظة سواء، وهذا قول يُدرَكُ فسادُه بأوائل العقول، ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها، وأن لا يراه رائيان في آن واحد في مكانين وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده فلا يبقى من قبره فيه شيء، فيزار مجرد القبر ويسلم على غائب؛ لأنه جائز أن يُرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره، وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مسكة من عقل».
الوجه الرابع: أن هذه العقيدة مخالفة لإجماع أهل السنة والجماعة وهي خاصة بأهل البدعة، قال ابن حزم في (مراتب الإجماع) (ص176): «واتفقوا أن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - وجميع أصحابه لا يرجعون إلى الدنيا إلا حين يبعثون مع جميع الناس».
الوجه الخامس: اضطراب مقالات الصوفية في كيفية الرؤية:
لما اشتد الإنكار على هؤلاء القائلين برؤيته - صلى الله عليه وآله وسلم - في الدنيا بعد وفاته يقظة لا منامًا، اضطربت مقالاتهم في كيفية تلك الرؤيا:
* فمنهم من أخذته العزة بالإثم فنفى الموت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالكلية وزعم أن موته - صلى الله عليه وآله وسلم - هو تَسَتّرُه عمن لا يفقه عن الله.
* ومنهم من زعم أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه ويسير حيث شاء في أقطار الأرض في الملكوت وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته.
* ومنهم من زعم أن له - صلى الله عليه وآله وسلم - مقدرة على التشكل والظهور في صور مشايخ الصوفية.
* ومنهم من زعم أن المراد برؤيته كذلك يقظة القلب لا يقظة الحواس الجسمانية.
* ومنهم من قال إن الاجتماع بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يكون في حالة بين النائم واليقظان.
* ومنهم من قال إن الذي يُرَى روحه - صلى الله عليه وآله وسلم -.
* ومنهم من قال إنه لا يُرَى جسمُه وبدنه بل يُرَى مثالٌ له.
* وبعد أن ظهر تفرد تلك الرواية ـ التي استدل بها الصوفية ـ عن روايات الجمهور، وتلك الاحتمالات التي تأولها أهل العلم في المراد بمعناها، وتلك الإشكالات والإنكارات التي وردت على المعنى الذي قصده الصوفية، واضطراب مقالاتهم في كيفية تلك الرؤيا، بكل ذلك يسقط استدلالهم بها، والقاعدة المشهورة في ذلك: إذا ورد على الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال.
الشبهة الرابعة: الاحتجاج على حياة الأنبياء بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - اجتمع بهم ليلة الإسراء في بيت المقدس. وما دام هذا ممكنًا في حق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - معهم، فيمكن أن يكون جائزًا في حق أولياء أمته معه، فيرونه في اليقظة.
الجواب:
أولاً: ليس النزاع في حياة الأنبياء في قبورهم ولا في اجتماع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بهم ليلة الإسراء ولا صلاته بهم إمامًا، فإن ذلك كله ثابت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فيجب على جميع المؤمنين التصديق به.
ثانيًا: حياة الأنبياء في قبورهم حياة برزخية لا نعلم كيف هي، وحكمها كحكم غيرها من المغيّبات، نؤمن بها ولا نشتغل بكيفيتها، ولكننا نجزم بأنها مخالفة لحياتنا الدنيا.
ثالثًا: أن الذي أخبرنا بأنه اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء هو الصادق المصدوق - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي يجب على كل مؤمن أن يصدقه في كل ما أخبر به من المغيّبات دقيقِها وجليلِها، ولذا آمنا بما أخبرنا به واعتقدناه عقيدة لا يتطرق إليها شك إن شاء الله تعالى.
أما من جاءنا بخبر وقوع رؤية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في اليقظة فمجموعة من الدراويش خالفت الكتاب والسنة والإجماع والمعقول، فلا يَجوز أن نصدقهم في دعواهم تلك.
بل وجب على كل موحد أن يردها بما استطاع لأنه باب يؤدي فتحه إلى ضلال عظيم وخراب للدين والعقل ويفتح باب التشريع من جديد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تنبيه هام: روى الإمام البخاري أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي» قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِذَا رَآهُ فِي صُورَتِهِ.
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري):قوله (قال أبو عبد الله: قال ابن سيرين: إذا رآه في صورته) سقط هذا التعليق للنسفي ولأبي ذر وثبت عند غيرهما، وقد رويناه موصولًا من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي عن سليمان بن حرب وهو من شيوخ البخاري عن حماد بن زيد عن أيوب قال: كان محمد ـ يعني ابن سيرين ـ إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «صِفْ لي الذي رأيتَه، فإن وصف له صفة لا يعرفها قال: لم تَرَهُ» وسنده صحيح.
ووجدت له ما يؤيده: فأخرج الحاكم من طريق عاصم بن كليب: حدثني أبي قال: قلت لابن عباس: رأيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في المنام، قال: صِفْهُ لي، قال: ذكرتُ الحسنَ بنَ عليّ فشبهتُه به، قال: قد رأيتَه» وسنده جيد، ويعارضه ما أخرجه ابن أبي عاصم من وجه آخر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من رآني في المنام فقد رآني، فإني أُرَى في