ويتنفس ويتزوج، ويتحرك ويتبرز، ويمرض ويتكلم، ولا أحد يستطيع أن يثبت أن أحدًا بعد الموت حتى الأنبياء - عليهم السلام -، وفي مقدمتهم نبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - تعرِض له هذه الأمور بعد موته.
ومما يؤكد هذا أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يختلفون في مسائل كثيرة بعد وفاته - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولم يخطر في بال أحد منهم الذهاب إليه - صلى الله عليه وآله وسلم - في قبره، ومشاورته في ذلك، وسؤاله عن الصواب فيها، لماذا؟ إن الأمر واضح جدًا، وهو أنهم كلهم يعلمون أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - انقطع عن الحياة الدنيا، ولم تعد تنطبق عليه أحوالها ونواميسها.
فرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد موته حي أكمل حياة يحياها إنسان في البرزخ، ولكنها حياة لا تشبه حياة الدنيا، ولعل مما يشير إلى ذلك قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ما من أحد يُسَلّم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرُدَّ عليه السلام» (رواه أبو داود وحسنه الألباني)، وعلى كل حال فإن حقيقتها لا يدريها إلا الله؛ ولذلك فلا يجوز قياس الحياة البرزخية أو الحياة الأخروية على الحياة الدنيوية، كما لا يجوز أن تعطى واحدة منهما أحكام الأخرى، بل لكل منها شكل خاص وحكم معين، ولا تتشابه إلا في الاسم، أما الحقيقة فلا يعلمها إلا الله.
الشبهة الثالثة: منهم من يستدل بحديث أبي هريرة الذي رواه البخاري في صحيحه (حديث رقم 6993) ولفظه: «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي». والكلام على الاستدلال بهذه الرواية من عدة أوجه:
الوجه الأول: بالنظر في ألفاظ الحديث ورواياته نجد ملاحظات على لفظ «فسيراني في اليقظة» لا ريب أنها تقلل من قيمة الاستدلال بها وهذه الملاحظات هي:
1 - رَوَى هذا الحديث اثنا عشر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أو يزيد، مما يدل على شيوعه واستفاضته.
2 - أن ثمانية من أئمة الحديث المصنفين اهتموا بهذا الحديث فأخرجوه في كتبهم مما يؤكد اهتمامهم به وفهمهم لمدلوله. ومع ذلك لم يُبَوِّب له أحد منهم بقوله مثلًا: باب في إمكان رؤية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في اليقظة، ولو فهموا منه ذلك لبَوَّبُوا به أو بعضهم على الأقل؛ لأنه أعظم من كل ما ترجموا به تلك الأبواب.
3 - أن المواضع التي أخرجوا فيها هذا الحديث بلغ (44) موضعًا، ومع كثرة هذه المواضع لم يرد في أي موضع لفظ «فسيراني في اليقظة» بالجزم إلا في إحدى روايات البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.أما بقية الروايات فألفاظها: «فقد رآني» أو «فقد رأى الحق» أو «فكأنما رآني في اليقظة «أو «فسيراني في اليقظة أو فكأنما رآني في اليقظة» بالشك.
4 - أن البخاري أخرج الحديث في ستة مواضع من صحيحه: ثلاثة منها من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وليس فيها لفظ «فسيراني في اليقظة» إلا في موضع واحد.
5 - أن مسلم (حديث رقم 2266)، وأبو داود (حديث رقم 5023)، وأحمد (5/ 306)، أخرجوا الحديث بإسناد البخاري الذي فيه اللفظ المذكور بلفظ «فسيراني في اليقظة. أو لكأنما رآني في اليقظة» وهذا الشك من الراوي يدل على أن المحفوظ إنما هو لفظ «فكأنما رآني» أو «فقد رآني «؛ لأن كلًا منهما ورد في روايات كثيرة بالجزم وليس فيها شيء شك فيه الراوي.
وعند الترجيح ينبغي تقديم رواية الجزم على رواية الشك.
الوجه الثاني: لو فرضنا أن هذا اللفظ «فسيراني» هو المحفوظ فإن العلماء المحققين لم يحملوه على المعنى الذي حمله عليه الصوفية.
* قال الإمام النووي - رحمه الله - في شرحه لصحيح مسلم (15/ 26): «فيه أقوال:
* أحدها: أن يُرادَ به أهلُ عصره، ومعناه: أن من رآه في النوم ولم يكن هاجر يوفقه الله للهجرة ورؤيته - صلى الله عليه وآله وسلم - في اليقظة عيانًا.
* وثانيها: أنه يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة في الدار الآخرة؛ لأنه يراه في الآخرة جميع أمته.
* وثالثها: أنه يراه في الآخرة رؤية خاصة في القرب منه وحصول شفاعته ونحو ذلك».
* قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) (12/ 385): «وحاصل تلك الأجوبة ستة:
*أحدها: أنه على التشبيه التمثيل، ودل عليه قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - في الرواية الأخرى: «فكأنما رآني في اليقظة».