في صحيح مسلم عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ الله أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: «فِي النَّارِ» فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ».
قال الإمام النووي - رحمه الله -: «فِيهِ: أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْر فَهُوَ فِي النَّار، وَلَا تَنْفَعهُ قَرَابَة الْمُقَرَّبِينَ، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ فِي الْفَتْرَة عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَب مِنْ عِبَادَة الْأَوْثَان فَهُوَ مِنْ أَهْل النَّار، وَلَيْسَ هَذَا مُؤَاخَذَة قَبْل بُلُوغ الدَّعْوَة، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَة إِبْرَاهِيم وَغَيْره مِنْ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه تَعَالَى وَسَلَامه عَلَيْهِمْ. وَقَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (إِنَّ أَبِي وَأَبَاك فِي النَّار) هُوَ مِنْ حُسْن الْعِشْرَة لِلتَّسْلِيَةِ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْمُصِيبَة وَمَعْنَى (قَفَى) وَلَّى قَفَاهُ مُنْصَرِفًا.
الشبهة الأولى: زعموا أن المقصود بأبيه في الحديث عمه كما في قوله تعالى عن إبراهيم - عليه السلام -: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} (الأنعام: 74).
الجواب: إرادة العم من الأب عدول عن الظاهر بلا مقتضِ.
قال الحافظ ابن كثير: قال ابن جرير: والصواب أن اسم أبيه آزر. ثم أورد على نفسه قول النسابين أن اسمه تارح، ثم أجاب بأنه قد يكون له اسمان، كما لكثير من الناس، أو يكون أحدهما لقبًا، وهذا الذي قاله جيد قوي، والله أعلم. ا. هـ.
وآزر أبو إبراهيم - عليه السلام - مات كافرًا؛ قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِله تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التوبة: 114)
وكونه مات كافرًا ردٌّ على من قال: إن شرف مقام النبوة يقتضي ألا يكون أحد آباء الأنبياء كافرًا، مستندًا فى ذلك إلى قول الله - عز وجل - للنبى - صلى الله عليه وآله وسلم -: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِين} (الشعراء: 219) فكيف يكون تقلب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فى الساجدين وآزر ليس منهم؟
فقد فُسِّرت الآية بغير ذلك، فقد جاء أن المعنى: يراك قائمًا وراكعًا وساجدًا، لأن قبل ذلك {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُوم}.
قال الإمام الطبري - رحمه الله -: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ) فى نقمته من أعدائه (الرَّحِيمِ) بمن أناب إليه وتاب من معاصيه.
(الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ) يقول: الذي يراك حين تقوم إلى صلاتك.
وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك ... : (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ) قال: أينما كنت.
(وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ويرى تقلبك في صلاتك حين تقوم، ثم تركع، وحين تسجد ...
ثم ذكر الإمام الطبري بإسناده عن ابن عباس قوله: (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) يقول: قيامك وركوعك وسجودك ... وذكر بإسناده عن عكرمة في قوله: (يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) قال: قيامه وركوعه وسجوده ...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ويرى تقلبك في المصلين، وإبصارك منهم من هو خلفك، كما تبصر من هو بين يديك منهم ...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وتقلبك مع الساجدين: أي تصرفك معهم في الجلوس والقيام والقعود ...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ويرى تصرّفك في الناس.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وتصرفك في أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك تفعله، والساجدون في قول قائل هذا القول: الأنبياء ...
وأولى الأقوال في ذلك بتأويله قول من قال تأويله: ويرى تقلبك مع الساجدين في صلاتهم معك، حين تقوم معهم وتركع وتسجد، لأن ذلك هو الظاهر من معناه.
قال الشيخ عطية صقر: «ولا يضير أن يكون فى أنساب الأنبياء كافرون، فكل امرىء بما كسب رهين» (فتاوى دار الإفتاء 8/ 100).
الشبهة الثانية: ذكر الإمام القرطبي في (التذكِرة) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: حج بنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حجة الوداع فمر بي على عقبة الحجون وهو باكٍ حزين، مغتم فبكيت