والذي بدا لي في توجيه الأمر بالانتقال من ذلك الوادي، وفي توجيه قوله في تعليله: «إن هذا واد به شيطان»: أن حيلة الشيطان لما غلبت حرصهم على كلاءة وقت الفجر حتى حرمتهم فضيلة ذلك الوقت الذي تشهده الملائكة، أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمبارحة ذلك المكان الذي غُلبوا فيه على ما يُحبُون من فضيلة الوقت تسليًا من الحسرة التي تلازمهم ما بقوا في ذلك المكان يذكرون ما ألم بهم، وتبغيضًا لآثار حيل الشيطان عندهم ليحصل لهم من ذلك التبغيض تيقظ لمحاربة كيد الشيطان، والتحرز منه بطريقة نفسانية تدخل في قوة المحسوس، وفي ذلك تقوية للإيمان. وقريبٌ من هذا المعنى النهي عن الاستقرار بأرض العذاب.
وقوله: «به شيطانٌ» يحتمل أن يكون معناه: أنه حل به شيطان، وهو الشيطان الذي دبر تهدئة ونفوسهم، ويحتمل أن يكون شيطانًا ملازمًا لذلك الوادي؛ إذ يجوز أن تألف المجردات والموجودات الخفية مواضع تلازمها، كما يألف الوحش والطير.
قوله فيه: «يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حينٍ غير هذا ... ».
تسكينٌ لهم، وإبداءٌ لمعذرتهم عند الله تعالى، بأنهم كانوا في حالة النوم غير مكلفين، وأنهم كانوا غير مفرطين في الأخذ بأسباب التيقظ للوقت. فالكلام الأول: تحسرٌ لما فاتهم من الفضل، والكلام الثاني: تهدئة لروعهم وفزعهم ببيان عدم المؤاخذة بذنب.
وقوله: «إن الله قبض أرواحنا» أي: في حال النوم. والقبض: الحبس والإمساك، أي: أمسك أرواحنا، أي: عن التصرف بكمال قواها؛ لأن النوم شبيه بالموت في عدم الإدراك، وعدم التصرف بالحواس، وبالمشي، والعمل باليد، فهو موت صغير؛ ولذلك قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42].
ووجه تشابه النوم والموت أن الحياة قوة ينشأ عنها الحس والحركة بسبب انبثاث الروح الحيواني في مزاج الحي، وينشأ عن الروح الحيواني انبعاث روح نفساني، فالموت انعدام الروح الحيواني، وبالضرورة ينعدم الروح النفساني، والنوم يساوي الموت في عدم انبعاث الروح النفساني عدمًا مؤقتًا، فتُشبه حالة النائم حالة الميت وقتًا ما، فالنوم: قبض للروح مؤقت بكيفية صالحة لرجوع مفعوله عند التيقظ؛ لأن سبب النوم تعب المجموع