حصل بأنَّ حصوله بقدر الله وعلمه أنه سيصيب من سيصيبه. وقد بيَّن عمر لأبي عبيدة سرَّ مسألة القدر وأطال لما رأى في كلامه من الشبهة التي راجت عليه وهي على غيره من السماعين أروج؛ فابتدأ بقوله: «نعم نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله»، يعني أنَّ ما قدره الله محجوبٌ عنا، فلا ندري أهو الموت أم السلامة فلو أقدمنا على الطاعون الذي هو سبب الموت فقد أقدمنا على أمر هر أنه قدر الله لنا؛ وإذا لم نقدم عليه فحصلت السلامة من ضره ظهر بعد أن الله قدَّر لنا السلامة، فمن أين ندري ما قدَّره الله لنا، وما علينا إلا طلب المسببات من أسبابها التي وضعها الله تعالى فإذا طلبناها وتيسرت ظهر أن الله قدر لنا أحد الأمرين، ثمَّ إن عمر بسط الدليل، فبيَّن أنَّ النَّاس إنَّما يتذكرون عقيدة القدر عند حصول الحوادث النادرة وعند الحيرة في صنعهم، ولا يتذكرون ذلك في سائر أحوالهم الحاصلة لهم كثيرًا في كل يوم، فإن أخذهم بأسباب المنافع وتوقيهم أسباب الأضرار مستمر؛ فلماذا لا يتركونها قائلين: لماذا نفر من قدر الله؟ فالسعي والاتقاء كله ترد عليه شبهة الفرار من قدر الله، ولهذا مثَّل له عمر بمن يرعى إبلًا، فيطلب لها مواقع الخصب مع أنَّ قدر الله لها من حياةٍ أو موتٍ ومن سمنٍ أو هزال مقرَّر في علم الله تعالى، يعني أنَّ طلب السلامة للناس أولى من طلب السلامة للإبل ونحوها.

وقول عمر: «لو غيرك قالها»: كلمة تقال في مقام من يأتي أمرًا لا يليق بأمثاله، فـ (لو) فيها للتمنِّي لا محالة، وليس ثمَّة جواب محذوف يدلُّ على قصد التعزير لغير أبي عبيدة، لو قال ذلك؛ إذ ليس المقام إلَّا مقام نظرٍ واستدلال.

* * *

ووقع فيه قوله: «من مهاجرة الفتح» فالهجرة فيه مراد منها مطلق المعنى اللغوي دون المعنى الشرعي الذي له الفضيلة الجليلة. وكانت مهاجرة الفتح بقيَّة أشراف قريش الذين تأخر إسلامهم إلى الفتح، وكانوا أهل رأي وتدبير لشؤون الناس؛ إذ كانوا من قبل يدبَّرون أمر قريش وفيهم مناصبهم في الجاهلية. وإنَّما لم يختلفوا على عمر في الرأي؛ لأنَّهم سمعوا من اختلاف المهاجرين، واختلاف الأنصار ما نوَّر بصائرهم؛ فاعتمدوا على أوضح الرأيين، وبرأيهم حصل الترجيح عند عمر رحمه الله.

* * *

ووقع فيه قوله: «من مشيخة قريشٍ» ضبطه ابن أبي الخصال بفتح الميم، وسكون

طور بواسطة نورين ميديا © 2015