أنواع الضر الحاصلة بين الناس في المعاملات تبينه الأدلة الشرعية الكثيرة القاضية بإبطال أجناس من الضر وبإمضاء أجناس أخرى منه، ويبينه القياس الجلي على كلا الجنسين من الضر، أو هو ظاهر في نفي كل ضر يحصل للناس، فيكون من بيانه أو تأويله أن من جنس الضر ما هو مقطوع بإبطاله بين الناس في معاملاتهم، وأن من جنس الضر ما هو مقطوع بإمضائه وجوازه، وأن من بين هذين أنواعًا كثيرة هي مجال للاجتهاد.
وتبيين ذلك أن معظم معاملات الناس، واقتضاء حقوقهم ومنافعهم لا يخلو من ضرٍّ يلحق أحد الجانبين المتعاملين أو كليهما ويلحق غير المقتضي لحقه ومنفعته فسوؤه اقتضاء غيره حقه ومنفعته، فالتبايع يشتمل على ضرٍّ يلحق المتتابعين؛ إذ أحدهما قد عدم ما كان عنده مما ينفعه استعماله أو يقضي له مآربه، فأعطاه للآخر والآخر قد عدم كذلك ما ينفعه استعماله أو يقضي له مآربه من أعيان ونقود.
واستعمال صاحب الحق حق تصرفه في شؤونه لا يخلو غالبًا من مضرة تلحق غيره، فإذا اتخذ سياجًا لحائطه يمنع المارة والبهائم من المرور ورعى شجره واجتناء ثمره، فقد أضر بالذين كانوا يتطرقونه، ويرعونه، ويجتنونه، واقتضاء المقتضي حقه المخول له، ومنافعه المباحة يضر بغيره ممن يضايقه ذلك الاقتضاء كاقتضاء الدائن دينه من مدينة وبيعه عليه سلعته لخلاص دينه، وكاقتضاء ذي المنفعة منفعته مثل: الاحتطاب، واختباط ورق الشجر، واشتيار عسل من كهف جبل، والجلوس في المسجد، والسوق حين يسبق إليه؛ فيفوز به في حين يلحقه راغب لمثل رغبته، فيجد الشجرة قد احتطبت، والورق قد اختبط، والعسل قد اشتير، والبقعة قد حيزت.
فلو أخذنا بظاهر إجماله، ولم نعمل النظر في أدلة الشريعة المبينة له والمؤولة لظاهره، لقضينا بتعطيل معظم أنواع المعاملات والتصرفات، وذلك باطل؛ لأن أدلة الشريعة طافحة بالإذن في معاملات كثيرة تحف بها أضرار بأناس عديدين، فتعين أن الضر المنفي في الحديث هو الضر الذي لا مسوغ له عند الشر، وأن محاولة ضبط ذلك بقاعدة بسيطة غير ممكنة لانتشار أنواع المعاملات المشتملة على بعض الأضرار. فالذي يلوح لنا في هذا المقام أن نلم بأنواع من الضر محظورة وبأضدادها؛ ليكون ذلك مثالاً يُحتذى، ولا تبقى هذه المسألة في عين الناظر كالقذى.
فمن الضر المنفي قطعًا الضر المتجاوز الحد المعروف المنحصر في جانب واحد، كقطع الأعضاء، وإزهاق روح الإنسان، وغصب الأموال، وحفر حفير في طريق المارة