ما كان ينبغي أن يختلف أهل العلم في أن الرضاعة بعد الكبر، أي: بعد استغناء الطفل عن اللبن غير موجبة حُرمة ملحقة بحرمة النسب، ولو أوجبت ذلك لكان حكم الرضاع عبثًا؛ مع أن الشريعة إنما جعلت له تلك الحُرمة ما لأجل أشبه به النسب في استبقاء حياة الطفل واختلاط لبن المرضع بلحمه ودمه حين لا يغني عنه غيره؛ فهذا من جهة المعنى وقد تأيد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض أزواجه «انظرن من يدخل عليكن فإنما الرضاعة من المجاعة»، ولا ينبغي أن يشك في أن إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لسهلة بنت سهيل في أن يدخل عليها سالمٌ مولى أبي حذيفة متبنى أبي حذيفة زوجها، إنما كان على وجه الرخصة لها؛ إذ كان حكم إرجاع المتبنين إلى الحقيقة في اعتبارهم أجانب من جهة النسب حكمًا، قد فاجأهم في حين كان التبني فاشيًا بينهم؛ وكانوا يجعلون للمتبنين مثل ما للأبناء؛ فشق ذلك عليهم وامتثلوا أمر الله تعالى في إبطاله. وكانت سهلة زوج أبي حذيفة بحال احتياج إلى خدمة سالم واختلاطه بهم؛ إذ لم يكن لها إلا بيت واحد، فعذرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورخص لها أن يدخل سالم عليها وهي فضل وجعل تلك الرخصة معضدة بعمل يشبه ما يبيح الدخول أصالة محافة على حكم إبطال التبني بقدر ما تمكن المحافظة في مقام الرخصة ومقام ابتداء التشريع، فإن للتدريج في أوائل التشريع أحوالاً مختلفة كما
رخص لهانئ بن نيار أن تجزئ عنه الضحية بالعناق التي ضحى بها قبل أن يضحي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان تعضيد الرخصة بعمل كتعضيد استشعار العجز عن الطهارة المائية بالتيمم كما أشرت إليه في باب التيمم. ألا ترى أنه لم يرخص لسهلة أن يكون لسالم أحكام الأبناء كلها وإنما اقتصر على أنه يدخل عليها وهي فضل، ولذلك لم يسمح أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأحد أن يدخل عليهن بعد الحجاب؛ بسبب رضاعة في الكبر مع احتياجهن إلى مثل ذلك ورأين حكم سهلة خصوصية كما في «الموطإ». وقد كان النساء يحتجن إلى مثل ما احتاجت إليه