فقالت عائشة: كلا لو كان كما تقول لكانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما. إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة؛ فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَ} [البقرة: 158] الآية.
قول عروة: «وأنا يومئذ حديث السنَّ» اعتذار توقُّفه وسؤاله عائشة؛ فيدلُّ على أنَّه موافق لتفسيرها الآية؛ وإنَّما اعتذر بحداثة سنة، إمَّا عن عدم علمه بسبب نزول الآية الذي فيه بيان المقصود منها، وإمَّا عن ضعف فهمه لأساليب الكلام العربي حتى لم يتَّضح له مفاد التركيب في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّه} - وقوله: {َفَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ}، فإنَّ عروة وإن كان عربيًا وناشئًا بين العرب، فإنَّ فهم خصائص اللغة يحتاج إلى ممارسة البلغاء وأهل اللسان، وتلك الممارسة لا تكمل في حداثة السنِّ؛ ولذلك كان العرب يصفون من بلغ منتهّى البلاغة والفصاحة من شعرائهم وخطبائهم بالفَحْل، والقرم، والبَازل.
ومعنى كلام عائشة أنَّ الله تعالى لما أخبر أن الصفا والمروة من شعائر الله، فقد أنبأنا بوجوب السعي بينهما وأنَّ ما عليه جمهور العرب من السعي بينهما هو من مراد الله تعالى ومن بقايا الحنيفية الصحيحة، فلمَّا قال: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} علم أنَّ ذلك نفي للحرج عن فريق إذا أراد أن يطوف بالصفا والمروة. وتعيين هذا الفريق علم من القصة التي قصتها عائشة.
وليس مراد عائشة أن قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} هو نصِّ على عدم التخبير في السعي، وأنَّه لو كان التخبير مرادًا لقال أن لا يطوَّف بهما، فإنَّ نفي الجناح من صيَغ الإباحة بالأصالة سواء كان تعلُّقه بالمنفي عنه بطريقة الإثبات أو بطريقة النفي؛ لأنَّ التخيير في الفعل يساوي التخيير في الترك كما هو شأن الإباحة. وإنَّما شأن صيغة الإباحة في كلام البليغ أن تتعلق بالطرف المتروك؛ لأنَّه الذي يَظهر فيه التخيير، فلمَّا تعلَّق نفي الحرج في الآية بالطرف المفعول، دلَّ على عدم الالتفات إلى جانب الترك، فلما انضمَّ إليه أن المأذون في فعله هو من شعائر الله تبين أن نفي الحرج مراد به حرج خاص وهو حرج تأثُّمهم؛ فيكون مثل قوله تعالى: