حُذف متعلَّق (جُنَّة) لقصد التعميم، أي: التكثير للمتعلَّقات الصالحة بالمقام. والتعميم الحاصل من حذف المتعلق من مفعول أو مجرور إنَّما هو تعميم بمعنى التكثير لا بمعنى الاتغراق، فهو تعميم ادعائي في المقام الخَطابي نحو قولك: قد كان منك ما يُؤلم. والجُنَّة: الوقاية. فأفاد كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الصوم وقاية من أضرار كثيرة، فكلُّ ضرٍّ ثبت عندنا أنَّ الصوم يدفعه، فهو مراد من المتعلَّق المحذوف. وقد يعرض لنا أن نعدَّ الآن أنَّ جنَّة من أضرار أخروية جمَّة بما ثبت من المغفرة للصائم ودخوله من باب الريَّان في الجَنة، وأنَّه تصفد في شهره الشياطين، وأنَّه أيضًا وقاية من الأضرار البدنية التي تجلبها الشهوات الحيوانية إذا أرضاهما صاحبهما، وأنَّه وقاية من خبائث نفسانية بما فيه من تزكية النفس واستشعار التخلق بالملكية. فهو جُنَّة من نقائِص الأحوال الحيوانية الحاجبة للنفسِ عن الالتحاق بأهل الملكية، وليس المراد أنه جُنَّة من النار كما اقتصر عليه بعض النظار. ومن هنا ظهر وجه التفريغ بالفاء في قوله: «فإذا كان أحدكم صائمًا فلا يَرفثْ ولا يَجهل».
ووجه التفريغ الثاني على التفريغ في قوله: «فإن امرؤٌ قاتله أو شاتمه»، الذي جاء به بعد أن أنُهِيَ الصائم عن الاعتداء على الناس في المخاطبات والمعاملات بالقول والفعل بما رمز إليه قوله: «فلا يرفث ولا يجهل»، نهيٌ أيضًا عن أن يجازىَ اعتداء غيره عليه بمثله فلأن المجازاة على الشر بمثله مرخَّص فيها، ولكن الصائم لمَّا ارتقى ارتقى إلى درجة الملكية حقيقًا بالإمساك عن التلبس بسِمات الحيوانية. فلقوله «فلْيقل: إنِّي صائم إنِّي صائم» معناه: فليقتصر على هذا القول. وليس المراد فليقُل ذلك وهو يباشر الانتقام لظهور أنه لا معنى له وإنَّما لم يؤمر بالإمساك مطلقًا وأمر بأن يقول لمن اعتدى عليه: إنِّي صائم، مع أنَّ ذلك لا يدفع عنه أذى المعتدين، ترخيصًا للمعتدّى عليه في شيء مما يزيل عنه حرج الصبر على الاعتداء لما في النفوس من إباء الضيم، فرخص له في هذا القول وإن كان فيه شيء من الرياء لمصلحة أعظمَ وهي إمساك النفس عن الاندفاع إلى الانتقام، ليعلم بذلك لمن اعتدى عليه وللناس أنَّ إمساكه عن الانتقام والمجازاة ليس لعَجْز وضُعف، بل للحفاظ على كمال الصوم من أن ينثلم بالدخول في آثار الغضب الذي هو من القوى الحيوانية.
والمقصود من قوله: «إنِّي صائم» مرتين مجرَّد التكرير، أي يكرٌر ذلك تكريرًا يعيه