كان تذكيرًا بالخلق، وتحذيرًا من كفر نعمة الله، وإثباتًا لنبوَّة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ووعدًا على الأعمال الصالحة؛ مثل: سورة اقرأ باسم ربك، وسورة المدثر، وسورة المزمل، ولم يكن فيه شيء من التعرض لآلهتهم، فلم يتلقوه بالقبول، وكذبوا الرسول، وأنكروا البعث، وناصبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين العداء؛ فلذلك عَرض رسول الله على أحد عظمائهم ما نزل من القرآن، فقال له الآخر: «ولا الدماء، ما أرى بما تقول بأسًا». وكان رسول الله يرجو أن يسلم ذلك العظيم، فيقتدي به قومه، أو أن يصدًّ قومه عن أذى المسلمين، وقد رأى من الرجل تأثرًا بالقرآن ومقاربة للإيمان، فجعل يُعرض عن الاشتغال بابن أمِّ مكتوم خشية امتعاض هذا الرجل، وخشية انفضاض المجلس عن غير طائل، فكان شغل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شغلًا بمهمِّ شرعي عظيم، اجتهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فرأى أنه أهم من الاشتغال بابن أم مكتوم؛ لأن المشرك إذا دخل في الإسلام زاد في أتباعه، وابن أم مكتوم إسلامه حاصل وإرشاده لا يَفوت؛ ولكن الله تعالى لم يقرَّه على اجتهاده هذا، فأعلمه بأن الاشتغال بهدي أحد من المؤمنين والاهتمام به أولى عند الله من الاشتغال بمحاولة إقناع أحد المشركين؛ لأن إكمال هدي المؤمن بما يزيده تزكية ورشدًا محقق الحصول؛ لأنه طالب هدي؛ ولأن الإقبال عليه يزيده محبَّةً لله ورسوله، وهدي المشرك مشكوك فيه؛ لأنه مكابر معاند، وقد قال الله تعالى: {إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَى} [النمل: 80]. والإقبال عليه لا يزيده إلا طغيانًا. فهذا علم جديد أوحى الله به إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ ليعلم به أصلًا من أصول دين الإسلام.
وقول ابن أم مكتوم: «استدنني»: أي: خذ بيدي. أراد أن يصل إلى الجلوس عنده؛ لأنه لما بلغ البيت خشي إن هو استمر على المشي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن يطأ جالسًا أو يعثر في شيء؛ ولذلك حكى الله حاله بقوله: «الأعمى»، فليس في ذلك تحقير لابن أم مكتوم، ولا تعريض بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبس له؛ لأنه أعمى، إذ لا يخطر ذلك بالبال.
وقول المشرك: «لا والدماء»: قسم تلطف فيه المشرك، فلم يباشر رسول الله عليه الصلاة والسلام بقسم بآلهتهم، فأقسم بالدماء التي هي دماء الهدايا في الحج.
وقد يُقال: كان اجتهاد رسول الله جاريًا على حسب ظواهر الأحوال دون إطلاع على مراد الله بها، فإن السعي إلى هداية مشرك أهم، وأعنى من الاشتغال ببعض المسلمين اشتغالًا قد يفيت إقناع ذلك المشرك، فيعلم أنَّ ذلك المسلم جاء مستزيدًا اهتداء، وجاء بقلبٍ سليم ممتلئ إيمانًا وخيرًا، ويعلم أن المشرك مصر على