مالكٌ عن يحيي بن سعيد؛ أن عبد الله بن مسعود قال لإنسان: إنك في زمان كثيرٍ فقهاؤه قُراؤه، تُحفظ فيه حدود القرآن وتُضيَّع حروفه، قليلٌ من يسأل، كثيرٌ من يُعطي، يطيلون فيه الصلاة ويُقصرون الخطبة، يبدئون أعمالهم قبل أهوائهم. وسيأتي على الناس زمانٌ قليلٌ فقهاؤه كثيرٌ قراؤه. تُحفظ فيه حروف القرآن وتُضيَّع حدوده. كثيرٌ من يسأل قليلٌ من يُعطي. يطيلون فيه الخُطبة ويُقصرون الصلاة، يبدَّئون فيه أهواءهم قبل أعمالهم.
مساق كلام ابن مسعود الثناء على الزمان الذي هو فيه بأن أهله يضعون أمور الدين مواضعها فيقدِّمون الأنفع على غيره، ولا يشتبه عليهم التفريط بالاستقامة. وذمُّ الزمان الذي سيجيئ بأن أهله يفيتون الأنفع والنافع، ويعبأون بما دون الأنفع وبالضار؛ لأنهم لا يضعون أمور الدين مواضعها في الترتيب والارتكاب؛ ولذلك جمع من صفات أهل الزمان الأول ما كلُّه فضائل، وجمع من صفات أهل الزمان الثاني أمورًا بعضها مفضولة وبعضها نقائص.
فقوله: «كثير فقهاؤه قراؤه» أراد: القراء بدون فقه بقرينة المقابلة، كأنه قال: قليل أهل القراءة وحدها، ونظائر هذا كثير في الكلام إذا علق الفعل بلفظ يدلُّ على أقل حالة في الغرض المسوق له الكلام، كما وقع في قول أبي برزة: كان النبي يصليِّ الصبح وأحدنا يعرف جليسه، أي: فقط، ولا يعرف من هو أبعد منه، وكذلك قولهم: «هو أخوه لأبيه»، أي: دون أمه، فلا ينافي ما هنا ما وقع في «صحيح البخاري»: وكان القراء أهل مجلس عمر كهؤلاء كانوا أو شبانًا، فإنه أراد القراء الفقهاء. وقوله: «تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروف» أراد به: قِلة المنافسة في الاستكثار من حفظ ألفاظ القرآن عن ظهر قلب بالنسبة إلى المنافسة في العمل بما جاء به القرآن من واجبات، ومنهيَّات، وفضائل أعمال، وأخلاقٍ. وأما حفظ ألفاظه فبقدر التيسير. وليس المراد التمدُّح بإضاعة حروف القرآن، أي: ألفاظه مطلقًا. ومعلوم أنَّ ليس مراده بحروف القرآن اختلاف وجوه أداء ألفاظه بحسب لغات العرب؛ إذ ليس ذلك مما يقصده ابن مسعود. وفي «تفسير يحيي ابن مُزين للموطأ» عن عيسى بن