وَاعْلَم أَن الْقَائِل بِالْإِبَاحَةِ مُقَيّد لَهَا بِمَا إِذا لم تشْتَمل زِيَارَة النِّسَاء للقبور على مَا يَفْعَله كثير من نسَاء زَمَاننَا من الْمُنكر قولا وفعلاً، بل مَا يَفْعَله كثير من جهلة الرِّجَال أَيْضا، فَلَا خلاف إِذا فِي الْحُرْمَة كَمَا لَا يخفى على المطلع الْخَبِير إِذا حصل مَا ذكر.
وَهَذِه مَذَاهِب الْعلمَاء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. وَقد ذهب بعض أَهل زَمَاننَا إِلَى جَوَاز زِيَارَة النِّسَاء للقبور مَا لم تَتَكَرَّر محتجا بِرِوَايَة "لعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زوارات الْقُبُور" على أَنَّهَا للْمُبَالَغَة مضعفاً رِوَايَة "لعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زائرات الْقُبُور" تقليداً لمن فهم ذَلِك قبله من غير تَحْقِيق، وَهُوَ خلاف لَا يعْتد بِهِ إِذْ لَيْسَ لَهُ حَظّ من نظرٍ وَقد قيل:
وَلَيْسَ كل خلاف جَاءَ مُعْتَبرا ... إِلَّا خلاف لَهُ حَظّ من النّظر
أَي من نظر صَحِيح وَسَيَأْتِي الْجَواب عَن أَدِلَّة الْجَمِيع إِن شَاءَ الله تَعَالَى غير منكرين مَا صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل كَمَا قَالَ الْعَلامَة شمس الدّين بن الْقيم رَحمَه الله تَعَالَى: "ندين الله بِكُل مَا صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا نجْعَل بعضه لنا وَبَعضه علينا، فَنقرَ مَا لنا على ظَاهره ونتأول مَا علينا على خلاف ظَاهره، بل الْكل لنا لَا نفرق بَين شَيْء من سنَنه، بل نتلقاها كلهَا بِالْقبُولِ ونقابلها بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة، ونتبعها أَيْن تَوَجَّهت ركائبها وننزل مَعهَا أَيْن نزلت مضاربها، فَلَيْسَ الشَّأْن فِي الْأَخْذ بِبَعْض سنَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَترك بَعْضهَا، بل الشَّأْن فِي الْأَخْذ بجملتها وتنزيل كل شَيْء مِنْهَا مَنْزِلَته وَوَضعه بموضعه وَالله الْمُسْتَعَان وَعَلِيهِ التكلان".