وَقَالَ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] وَالْخَيْرِيَّةُ تُوجِبُ الْحَقِّيَّةَ فِيمَا أَجْمَعُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــQكُلُّ احْتِمَالٍ لَمْ يَبْقَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الظَّوَاهِرَ وَالْعُمُومَاتِ مِنْ الدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ عِنْدَ أَكْثَرِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَالْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ وَعَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ تَمَسَّكُوا فِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ بِشُبْهَةٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ لَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ خِلَافَ الظَّاهِرِ لَمْ تَقْدَحْ فِي قَطْعِيَّةِ النُّصُوصِ حَتَّى وَجَبَ تَضْلِيلُهُمْ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِاحْتِمَالٍ لَمْ يَنْشَأْ عَنْ دَلِيلٍ.
1 -
وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِخِطَابِ الشَّارِعِ إلَّا مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ إنْ تَجَرَّدَ عَنْ قَرِينَةٍ وَإِنْ احْتَمَلَ غَيْرَ ظَاهِرِهِ أَوْ مَا يَقْتَضِيهِ مَعَ قَرِينَةٍ إنْ وُجِدَتْ مَعَهُ قَرِينَةٌ إذْ لَوْ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ غَيْرُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُهُ لَمَا حَصَلَ الْوُثُوقُ بِخِطَابِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ ظَاهِرِهِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْهُ وَذَلِكَ يُفْضِي إلَى اشْتِبَاهِ الْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ.، أَلَا تَرَى أَنَّا نَعْلَمُ الشَّيْءَ جَائِزَ الْوُقُوعِ قَطْعًا، ثُمَّ نَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ انْقِلَابُ مَاءِ جَيْحُونَ دَمًا وَانْقِلَابُ الْجُدْرَانِ ذَهَبًا وَظُهُورُ الْإِنْسَانِ الشَّيْخِ لَا مِنْ الْأَبَوَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَمَعَ ذَلِكَ نَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ، فَكَذَا هَاهُنَا وَإِنْ جَوَّزْنَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّ شَيْءٍ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِينَا عِلْمًا بَدِيهِيًّا؛ فَإِنَّهُ لَا يَعْنِي لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ إلَّا ظَوَاهِرَهَا فَكَذَلِكَ أَمِنَّا عَنْ الِالْتِبَاسِ وَعَرَفْنَا أَنَّ الظَّوَاهِرَ قَاطِعَةٌ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ الْقَطْعِيَّةِ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] كَانَ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِ الشَّيْءِ فِي زَمَانٍ مَاضٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْهَامِ وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمٍ سَابِقٍ وَلَا عَلَى انْقِطَاعٍ طَارِئٍ.
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] كَأَنَّهُ قِيلَ: وُجِدْتُمْ وَخُلِقْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ وَقِيلَ: كُنْتُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ خَيْرَ أُمَّةٍ وَقِيلَ كُنْتُمْ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مَذْكُورِينَ بِأَنَّكُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ مَوْصُوفِينَ بِهِ، أُخْرِجَتْ أُظْهِرَتْ، وَقَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ بَيَّنَ بِهِ كَوْنَهُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ كَمَا يُقَالُ: زَيْدٌ كَرِيمٌ يُطْعِمُ النَّاسَ وَيَكْسُوهُمْ وَيَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ وَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ خَيْرِيَّتِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَامُ التَّعْرِيفِ فِي اسْمِ الْجِنْسِ يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَمَرُوا بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَنَهَوْا عَنْ كُلِّ مُنْكِرٍ فَلَوْ أَجْمَعُوا عَلَى خَطَإٍ قَوْلًا لَكَانُوا أَجْمَعُوا عَلَى مُنْكَرٍ قَوْلًا فَكَانُوا آمِرِينَ بِالْمُنْكَرِ نَاهِينَ عَنْ الْمَعْرُوفِ هُوَ يُنَاقِضُ مَدْلُولَ الْآيَةِ.
وَعَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ خَيْرِيَّتِهِمْ بِكَلِمَةِ التَّفْضِيلِ؛ فَإِنَّ كَلِمَةَ " خَيْرَ " هَاهُنَا بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ فَتَدُلُّ عَلَى النِّهَايَةِ فِي الْخَيْرِيَّةِ وَذَلِكَ يُوجِبُ حَقِّيَّةَ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا لَكَانُوا آمِرِينَ بِالْمُنْكَرِ نَاهِينَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَكُونُ خَيِّرًا مُطْلَقًا فَيَلْزَمُ مِنْهُ خِلَافُ النَّصِّ.
وَعِبَارَةُ التَّقْوِيمِ أَنَّ كَلِمَةَ " خَيْرَ " بِمَعْنَى أَفْعَلَ فَتَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الْخَيْرِيَّةِ وَنَفْسُ الْخَيْرِيَّةِ فِي كَيْنُونَةِ الْعَبْدِ مَعَ الْحَقِّ وَالنِّهَايَةُ فِي كَيْنُونَتِهِ مَعَ الْحَقِّ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَدَلَّ لَفْظُ الْخَيْرِ، وَهُوَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ عَلَى أَنَّهُمْ يُصِيبُونَ لَا مَحَالَةَ الْحَقَّ الَّذِي هُوَ حَقٌّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا اجْتَمَعُوا عَلَى شَيْءٍ وَإِنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ لَا يَعْدُوهُمْ إذَا اخْتَلَفُوا.
فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي اتِّصَافَ كُلِّ وَاحِدٍ بِوَصْفِ الْخَيْرِيَّةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْمَعْلُومُ خِلَافُهُ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ إجْرَاؤُهَا عَلَى الظَّاهِرِ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ عِنْدَنَا.
قُلْنَا: لَيْسَ الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ