احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] وَالْهُدَى اسْمٌ يَقَعُ عَنْ الْإِيمَانِ وَالشَّرَائِعِ وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ حَقِيقَتُهُ دِينًا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَدَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى حَسَنٌ مَرْضِيٌّ عِنْدَهُ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] وَقَالَ {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] فَصَارَ الْأَصْلُ هُوَ الْمُوَافَقَةَ وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرَائِعِ الْمَاضِيَةِ الْخُصُوصُ فِي الْمَكَانِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْكِتَابِ أَوْ بِرِوَايَةِ الْمُسْلِمِينَ عَمَّا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْكِتَابِ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَثْبُتُ مِنْ ذَلِكَ بِبَيَانٍ فِي الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ.
وَذَهَبَ أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ وَالْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَالشَّيْخَانِ وَعَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إلَى أَنَّ مَا ثَبَتَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا أَوْ بِبَيَانٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةُ نَبِيِّنَا مَا لَمْ يَظْهَرْ نَاسِخُهُ، فَأَمَّا مَا عُلِمَ بِنَقْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ بِفَهْمِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُتُبِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ لِقِيَامِ دَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُمْ حَرَّفُوا الْكُتُبَ فَلَا يُعْتَبَرُ نَقْلُهُمْ فِي ذَلِكَ وَلَا فَهْمُ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْكُتُبِ لِتَوَهُّمِ أَنَّ الْمَنْقُولَ أَوْ الْمَفْهُومَ مِنْ جُمْلَةِ مَا حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَكَذَا لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَرَفَ ذَلِكَ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ أَوْ بِقَوْلِ جَمَاعَتِهِمْ وَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا احْتَجَّ الْأَوَّلُ أَيْ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ أَوْ الْعَامِلُ الْأَوَّلُ بِالنُّصُوصِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [الأنعام: 90] يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ ذُكِرُوا فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ أَيْ فَاخْتَصَّ هَدْيَهُمْ بِالِاقْتِدَاءِ وَلَا تَقْتَدِ إلَّا بِهِمْ وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ يُوقَفُ عَلَيْهَا فِي الْوَقْفِ وَتَسْقُطُ فِي الْوَصْلِ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِكَسْرِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ جَاعِلًا الْهَاءَ كِنَايَةً عَنْ الْمَصْدَرِ أَيْ اقْتَدِ الِاقْتِدَاءِ كَمَا فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، أَمَرَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالِاقْتِدَاءِ بِهَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْهَدْيُ اسْمٌ لِلْإِيمَانِ وَالشَّرَائِعِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الِاهْتِدَاءَ يَقَعُ بِالْكُلِّ فَيَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ شَرْعِهِمْ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْهَدْيَ شَامِلٌ الْإِيمَانَ وَالشَّرَائِعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْمُتَّقِينَ بِالْإِيمَانِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] ثُمَّ قَالَ {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] .
وقَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وقَوْله تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44] وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ جُمْلَتِهِمْ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِهَا وَقَوْلُهُ جَلَّ جَلَالُهُ {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] وَالدِّينُ اسْمٌ لِمَا يُدَانُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالشَّرَائِعِ وَبِالْمَعْقُولِ وَهُوَ أَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي كَانَتْ الشَّرِيعَةُ مَنْسُوبَةً إلَيْهِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا بِبَعْثِ رَسُولٍ آخَرَ بَعْدَهُ فَكَذَا شَرِيعَتُهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا بِهَا بِبَعْثِ رَسُولٍ آخَرَ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ النَّسْخِ فِيهَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ مَا يَثْبُتُ شَرِيعَةً لِرَسُولٍ فَقَدْ ثَبَتَتْ حَقِّيَّتُهُ وَكَوْنُهُ مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ وَبُعِثَ الرَّسُولُ لِبَيَانِ مَا هُوَ مَرَضِيٌّ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَمَا عُلِمَ كَوْنُهُ مَرَضِيًّا بِبَعْثِ رَسُولٍ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَرَضِيًّا بِبَعْثِ رَسُولٍ آخَرَ.
وَإِذَا بَقِيَ مَرْضِيًّا كَانَ مَعْمُولًا بِهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ بَعْثِ الرَّسُولِ الثَّانِي وَكَانَ بَعْثُ الثَّانِي مُؤَيِّدًا لَهَا وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِي قَوْله تَعَالَى إخْبَارًا {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] ؛ لِأَنَّ كُلَّهُمْ يَدْعُونَ الْخَلْقَ إلَى دِينٍ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وقَوْله تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} [المائدة: 48] أَيْ الْقُرْآنَ {بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: 48] أَيْ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ جِنْسِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ أَيْ أَمِينًا وَشَاهِدًا عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي خَلَتْ قَبْلَهُ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي شَرَائِعِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - الْمُوَافَقَةُ إلَّا إذَا ظَهَرَ تَغْيِيرُ حُكْمٍ بِدَلِيلِ النَّسْخِ.
وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ مَا يُنْسَبُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - مِنْ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ شَرِيعَةُ اللَّهِ تَعَالَى لَا شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ الشَّارِعُ لِلشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ قَالَ اللَّهُ