وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَهُ وَإِنَّمَا أَخَّرْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ شَرِيعَةً لَهُ وَهَذَا.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَلْزَمُنَا شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَنَا حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى النَّسْخِ بِمَنْزِلَةِ شَرَائِعِنَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَلْزَمُنَا حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَلْزَمُنَا عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَتُنَا وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّ مَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا عَلَيْنَا مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ أَوْ قَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُنَا عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةُ رَسُولِنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــQالصَّادِرُ عَنْ عَقْلٍ وَنَظَرٍ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ وَانْدَرَجَ فِيمَا ذَكَرْنَا الْجَوَابُ عَنْ بَقِيَّةِ كَلِمَاتِهِمْ فَلَا نُعِيدُهُ.
قَوْلُهُ (وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَهُ) ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا بَقِيَتْ إلَى مَبْعَثِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَصَارَتْ شَرِيعَةً لَهُ لِمَا سَنُبَيِّنُ كَانَتْ مِنْ سُنَنِهِ وَإِنَّمَا أَخَّرْنَاهُ لِلِاخْتِلَافِ فِي كَوْنِهَا شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَذِكْرُ الضَّمَائِرِ الثَّلَاثَةِ الْأَوَاخِرِ مَعَ كَوْنِهَا رَاجِعَةً إلَى الشَّرَائِعِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ أَوْ لِكَوْنِ الشَّرَائِعِ مُضَافَةً إلَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ مَنْ قَبْلَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَهَذَا.
[بَابُ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا]
أَيْ بَابُ بَيَانِ الِاخْتِلَافِ فِي شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ كَذَا فَهُوَ مَعْنَى إيرَادِ الْفَاءِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِشَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَيَأْمُرَهُ بِاتِّبَاعِهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ اتِّبَاعِهَا وَلَيْسَ فِي دِينٍ اسْتِبْعَادٌ وَلَا اسْتِنْكَارٌ وَإِنَّ مَصَالِحَ الْعِبَادِ قَدْ تَتَّفِقُ وَقَدْ تَخْتَلِفُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَصْلَحَةً فِي زَمَانِ النَّبِيِّ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَيَجُوزُ عَكْسُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً فِي زَمَانِ النَّبِيِّ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَيَجُوزُ أَنْ تَخْتَلِفَ الشَّرَائِعُ وَتَتَّفِقُ.
وَلَا يُقَالُ: إذَا جَاءَ الثَّانِي بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ لِبِعْثَتِهِ وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى يَدِهِ فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ شَرِيعَتَهُ مَعْلُومَةٌ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّهُمَا وَإِنْ اتَّفَقَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي بَعْضِهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مَبْعُوثًا إلَى قَوْمٍ وَالثَّانِي إلَى غَيْرِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَرِيعَةُ الْأَوَّلِ قَدْ انْدَرَسَتْ فَلَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الثَّانِي وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَدَثَ فِي الْأُولَى بِدَعٌ فَيُزِيلُهَا الثَّانِيَةُ فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَيْنِ جَائِزَانِ إلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِ التَّعَبُّدِ بِهَا فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَلْ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِشَرْعِ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ الْبَعْثِ فَأَبَى بَعْضُهُمْ ذَلِكَ كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَثْبَتَهُ بَعْضُهُمْ مُخْتَلِفِينَ فِيهِ أَيْضًا فَقِيلَ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِشَرْعِ نُوحٍ وَقِيلَ بِشَرْعِ إبْرَاهِيمَ وَقِيلَ بِشَرْعِ مُوسَى وَقِيلَ بِشَرْعِ عِيسَى وَقِيلَ بِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ شَرْعٌ وَتَوَقَّفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ كَالْغَزَالِيِّ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ وَغَيْرِهِمَا وَمَحَلُّ بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أُصُولِ التَّوْحِيدِ.
وَالثَّانِي أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ الْبَعْثِ وَأُمَّتَهُ هَلْ كَانُوا مُتَعَبَّدِينَ بِشَرْعِ مَنْ تَقَدَّمَ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي عُقِدَ الْبَابُ لِبَيَانِهَا فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ مُتَعَبَّدًا بِشَرَائِعَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَأَنَّ كُلَّ شَرِيعَةٍ ثَبَتَتْ لِنَبِيٍّ فَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَهُ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى الِانْتِسَاخِ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُنَا شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا عَلَى أَنَّهَا شَرِيعَةُ ذَلِكَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ نَسْخُهَا وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ مُتَعَبَّدًا بِشَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا وَأَنَّ شَرِيعَةَ كُلِّ نَبِيٍّ يَنْتَهِي بِوَفَاتِهِ عَلَى مَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ أَوْ يُبْعَثَ نَبِيٌّ آخَرُ عَلَى مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَيَتَجَدَّدُ لِلثَّانِي شَرِيعَةٌ أُخْرَى إلَّا مَا لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ وَالِانْتِسَاخَ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهَا إلَّا بِمَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى بَقَائِهِ بِبَيَانِ الرَّسُولِ الْمَبْعُوثِ بَعْدَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِمَا نُقِلَ مِنْ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا فِيمَا لَمْ يَثْبُتْ انْتِسَاخُهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ شَرِيعَةٌ لِنَبِيِّنَا وَلَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ مَا يَصِيرُ مَعْلُومًا مِنْهَا بِنَقْلِ أَهْلِ