أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ أَجْمَعُوا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَمِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَهَذَا إجْمَاعٌ عَلَى أَنَّ لِلِاسْتِثْنَاءِ حُكْمًا وُضِعَ لَهُ يُعَارَضُ بِهِ حُكْمُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَهِيَ كَلِمَةٌ وُضِعَتْ لِلتَّوْحِيدِ وَمَعْنَاهُ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ فَلَوْ كَانَ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي لَكَانَ نَفْيًا لِغَيْرِهِ لَا إثْبَاتًا لَهُ فَصَحَّ لَمَّا كَانَتْ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ أَنَّ مَعْنَاهَا إلَّا اللَّهُ فَإِنَّهُ إلَهٌ وَكَذَلِكَ لَا عَالِمَ إلَّا زَيْدٌ فَإِنَّهُ عَالِمٌ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَإِنَّا نَجِدُ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَرْفَعُ التَّكَلُّمَ بِقَدْرِهِ مِنْ صَدْرِ الْكَلَامِ وَإِذَا بَقِيَ التَّكَلُّمُ صِيغَةً بَقِيَ بِحُكْمِهِ فَلَا سَبِيلَ إلَى رَفْعِ التَّكَلُّمِ بَلْ يَجِبُ الْمُعَارَضَةُ بِحُكْمِهِ فَامْتِنَاعُ الْحُكْمِ مَعَ قِيَامِ التَّكَلُّمِ سَائِغٌ، فَأَمَّا انْعِدَامُ التَّكَلُّمِ مَعَ وُجُودِهِ مِمَّا لَا يُعْقَلُ

ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيْضًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ» لَمَّا تَنَاوَلَ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُسَاوِيَ مِنْ الْجَمِيعِ بَقِيَ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي وَهُوَ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ الَّذِي لَيْسَ بِمُسَاوٍ لِبَدَلِهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ الْقَلِيلَ بِالطَّعَامِ وَلَا الْكَثِيرَ بِمَا لَيْسَ بِمُسَاوٍ لَهُ، وَكَذَا صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا ثَوْبًا لَيْسَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مُعَارَضَةً أَيْضًا بَلْ هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَّصِلَ حَقِيقَةٌ وَالِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ مَجَازٌ فَمَهْمَا أَمْكَنَ حَمْلُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهَا إذْ الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ مِنْ الْمُجَانَسَةِ فَوَجَبَ صَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْقِيمَةِ لِيَثْبُتَ الْمُجَانَسَةُ وَيَتَحَقَّقَ الِاسْتِخْرَاجُ كَمَا هُوَ حَقِيقَتُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلهُ مُعَارَضَةً إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ إذْ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ أَيْضًا، وَإِذَا وَجَبَ رَدُّ الثَّوْبِ إلَى الْقِيمَةِ تَصْحِيحًا لِلِاسْتِثْنَاءِ لَا ضَرُورَةَ إلَى جَعْلِهِ مُعَارَضَةً بَلْ يُجْعَلُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى فَيَثْبُتُ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ لَا تَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ مُعَارَضَةً.

وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ بَعْضَ مَشَايِخِنَا قَالُوا الِاسْتِثْنَاءُ يَعْمَلُ بِطَرِيقِ الْبَيَانِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ وَلَا نَصَّ فِيهِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَلَكِنَّهُمْ اسْتَدَلُّوا عَلَى الْخِلَافِ بِمَسَائِلَ وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الدِّيَانَةِ أَنَّهُ بِطَرِيقِ الْبَيَانِ لَا بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ إجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا الِاسْتِثْنَاءُ اسْتِخْرَاجُ بَعْضِ مَا تُكُلِّمَ بِهِ وَقَالُوا أَيْضًا الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا وَالْمُعَارَضَةُ قَدْ تَكُونُ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ مَعَ بَقَاءِ الْكَلَامِ وَهُوَ غَيْرُ اسْتِخْرَاجِ بَعْضِ الْكَلَامِ وَالتَّكَلُّمِ.

وَقَالَ وَإِنَّمَا حَمَلَ هَؤُلَاءِ عَلَى جَعْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُخْتَلِفَةً إشْكَالَاتٌ يَتَرَاءَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُعَارَضَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

1 -

قَوْلُهُ (إنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَمِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ) فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُوجِبٌ عَلَى خِلَافِ الْأَوَّلِ لَمَا جَعَلُوهُ كَذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ حُكْمًا عَلَى ضِدِّ مُوجِبِ أَصْلِ الْكَلَامِ يُعَارِضُ الِاسْتِثْنَاءُ بِذَلِكَ الْحُكْمِ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، أَوْ الرَّاءُ بِالْفَتْحِ أَيْ يُعَارَضُ بِذَلِكَ الْحُكْمِ حُكْمُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ اخْتِصَارًا لِدَلَالَةِ الصَّدْرِ عَلَيْهِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف: 11] وَفِي مَوْضِعٍ: {إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 31] {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 32] وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنْ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا ثَلَاثَةً إلَّا دِرْهَمَيْنِ يَلْزَمُهُ تِسْعَةٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ مِنْ الْإِثْبَاتِ فَكَانَ نَفْيًا وَالِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ مِنْ النَّفْيِ فَكَانَ إثْبَاتًا.

وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ أَنَّ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ وَهِيَ كَلِمَةُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةُ تَوْحِيدٍ بِالْإِجْمَاعِ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَقَوْلُهُ لَا إلَهَ نَفْيٌ لِلْأُلُوهِيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ إلَّا اللَّهُ إثْبَاتُ الْأُلُوهِيَّةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ صَارَتْ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ وَالتَّوْحِيدِ، وَعَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَا تَبْقَى كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا جُعِلَ دَاخِلًا عَلَى التَّكَلُّمِ لِيَمْنَعَ الْبَعْضَ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْإِثْبَاتِ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِالنَّفْيِ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَيْ بِنَفْيِ الْأُلُوهِيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ لَا بِإِثْبَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ تَوْحِيدًا.

وَلَا يَعْنِي بِهِ نَفْيَ مَا هُوَ ثَابِتٌ أَوْ إثْبَاتَ مَا لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ إلَهًا وَلَا يَكُونُ وَاَللَّهُ تَعَالَى إلَهٌ أَزَلًا وَأَبَدًا وَإِنَّمَا يَعْنِي بِالنَّفْيِ التَّبَرُّؤَ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ وَبِالْإِثْبَاتِ الْإِقْرَارَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ لَهُ تَعَالَى فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى التَّوْحِيدِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ إذَا جُعِلَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015