وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَلَا دَلِيلَ مَعَهُ أَصْلًا عَمِلَ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ مُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ لِمَا قُلْنَا إنَّ الصَّوَابَ وَاحِدٌ مِنْهَا فَلَمْ يَسْقُطْ الِابْتِلَاءُ بَلْ وَجَبَ الْعَمَلُ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ.
، وَإِذَا عَمِلَ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ فَوْقَهُ يُوجِبُ نَقْضَ الْأَوَّلِ حَتَّى لَمْ يَجُزْ نَقْضُ حُكْمٍ أُمْضِيَ بِالِاجْتِهَادِ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ تَرَجَّحَ بِالْعَمَلِ بِهِ وَلَمْ يَنْقُضْ التَّحَرِّي بِالْيَقِينِ فِي الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ حَادِثٌ لَيْسَ بِمُنَاقِضٍ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ نَزَلَ بِخِلَافِ الِاجْتِهَادِ أَوْ إجْمَاعٍ انْعَقَدَ بَعْدَ إمْضَاءِ حُكْمِ الِاجْتِهَادِ عَلَى خِلَافِهِ.
وَأَمَّا الْعَمَلُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى خِلَافِ الْأَوَّلِ فَنَوْعَانِ إنْ كَانَ الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ بِهِ يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ مِنْ جِهَةٍ إلَى جِهَةٍ حَتَّى انْتَقَلَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى الْكَعْبَةِ وَانْتَقَلَ مِنْ عَيْنِ الْكَعْبَةِ إلَى جِهَتِهَا فَصَلُحَ التَّحَرِّي دَلِيلًا عَلَى خِلَافِ الْأَوَّلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْمَسْحِ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ فَلَا مَعْنَى لِلْأَمْرِ بِهِ بِخِلَافِ سُؤْرِ الْحِمَارِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُنَجِّسٍ، وَلِهَذَا لَوْ غُمِسَ الثَّوْبُ فِيهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ فِيهِ فَيَسْتَقِيمُ الْأَمْرُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ احْتِيَاطًا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.
قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ) عَطْفٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الثَّوْبَيْنِ أَيْ وَكَمَا أَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبَيْنِ يَعْمَلُ بِالتَّحَرِّي عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ بِانْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ يَعْمَلُ بِهِ أَيْضًا وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَيْ جِهَةٍ شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ، لِمَا قُلْنَا يَعْنِي فِي تَعَارُضِ الْقِيَاسَيْنِ إنَّ الصَّوَابَ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَيْ مِنْ الِاجْتِهَادَيْنِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ صَوَابًا فِي حَقِّ الْعَمَلِ بِهِ فَكَذَا الصَّوَابُ فِي جِهَاتِ الْكَعْبَةِ وَاحِدٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ جِهَةٍ صَوَابًا فِي انْتِقَالِ الْحُكْمِ إلَيْهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، أَوْ لِمَا قُلْنَا فِي مَوْضِعِهِ فِي شَرْحِ الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ إنَّ الصَّوَابَ فِي مَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ مِنْ الظَّنَّيْنِ أَوْ مِنْ الْجِهَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْكَعْبَةَ لَيْسَتْ إلَّا وَاحِدَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ الِابْتِلَاءُ بِإِيجَابِ التَّحَرِّي لِمَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةِ الْقِيَاسَيْنِ حَتَّى لَوْ تَوَجَّهَ إلَى جِهَةٍ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ وَجَبَتْ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ صَارَ فَرْضًا مِنْ فُرُوضِ صَلَاتِهِ فَإِذَا تَرَكَهُ لَا يُجْزِيه صَلَاتُهُ كَمَا لَوْ تَرَكَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْعُذْرِ إلَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ الْقِبْلَةَ فَحِينَئِذٍ تَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ فَرْضِيَّةَ التَّحَرِّي لِمَقْصُودٍ، وَقَدْ تَوَصَّلَ إلَى ذَلِكَ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ فَسَقَطَتْ فَرْضِيَّتُهُ عَنْهُ
قَوْلُهُ (وَإِذَا عَمِلَ بِذَلِكَ) يَعْنِي إذَا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ فِي تَعَارُضِ الْقِيَاسَيْنِ وَعَمِلَ بِأَحَدِهِمَا بِالتَّحَرِّي، لَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ أَيْ نَقْضُ ذَلِكَ الْعَمَلِ إلَّا بِدَلِيلٍ فَوْقَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَنْ ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْعَمَلَ كَانَ بَاطِلًا، حَتَّى لَمْ يَجُزْ نَقْضُ حُكْمٍ أُمْضِي أَيْ أُتِمَّ بِالِاجْتِهَادِ بِمِثْلِهِ أَيْ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ، وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ فَوْقَهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَيْ الْقِيَاسَ الْأَوَّلَ تَرَجَّحَ بِالْعَمَلِ بِهِ أَيْ يُقَوَّى بِاتِّصَالِ الْعَمَلِ بِهِ وَتَرَجَّحَتْ جِهَةُ الصَّوَابِ فِيهِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ الْعَمَلِ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِكَوْنِهِ حُجَّةً وَصَوَابًا ظَاهِرًا وَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَرَجُّحُ جَانِبِ الْخَطَأِ فِي الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ مَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْأَقْوَى بِمَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ لَمْ يُنْقَضْ التَّحَرِّي بِالْيَقِينِ فِي الْقِبْلَةِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّك قَدْ قُلْت إنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِمِثْلِهِ وَلَكِنَّهُ يُنْقَضُ بِدَلِيلٍ فَوْقَهُ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ لَمْ يُنْقَضْ مَا أَدَّى بِالتَّحَرِّي بِدَلِيلٍ فَوْقَهُ بِأَنْ تَيَقَّنَ بِأَنَّهُ كَانَ مُخْطِئًا لِلْقِبْلَةِ فِي تَحَرِّيهِ، كَمَا يُنْقَضُ حُكْمٌ أُمْضِيَ بِالِاجْتِهَادِ إذَا ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ، فَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْيَقِينَ حَادِثٌ لَيْسَ بِمُنَاقِضٍ يَعْنِي هَذَا الْيَقِينُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الِاجْتِهَادِ حَقِيقَةً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ إلَى التَّوَصُّلِ إلَيْهِ لِانْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ الْعَمَلِ بِذَلِكَ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي إبْطَالِ مَا مَضَى بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا عَمِلَ بِالِاجْتِهَادِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ نَزَلَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي انْتِقَاضِ ذَلِكَ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلَ الِاجْتِهَادِ وَالْعَمَلِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افْتَدَى عَنْ أُسَارَى بَدْرٍ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ نَزَلَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] وَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي إبْطَالِ مَا مَضَى لِمَا ذَكَرْنَا فَكَذَا هَذَا بِخِلَافِ الْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ فِي زَمَانِنَا فَإِنَّهُ إذَا ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ يُنْتَقَضُ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْبُطْلَانِ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الِاجْتِهَادِ وَكَانَ طَرِيقُ الْوُصُولِ إلَيْهِ وَهُوَ الطَّلَبُ قَائِمًا إلَّا أَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ لِتَقْصِيرِهِ