عَلَى الْأَقْسَامِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا إنَّمَا يُرَادُ بِهَا طَلَبُ الْأَحْكَامِ الْمَشْرُوعَةِ، وَأَدَاؤُهَا، وَإِنَّمَا الْخِطَابُ لِلْأَدَاءِ وَلِهَذِهِ الْأَحْكَامِ أَسْبَابٌ تُضَافُ إلَيْهَا شَرْعِيَّةٌ وُضِعَتْ تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ، وَإِنَّمَا الْوُجُوبُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَا أَثَرَ لِلْأَسْبَابِ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا وُضِعَتْ تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ لَمَّا كَانَ الْإِيجَابُ غَيْبًا فَنُسِبَ الْوُجُوبُ إلَى الْأَسْبَابِ الْمَوْضُوعَةِ وَثَبَتَ الْوُجُوبُ جَبْرًا لَا اخْتِيَارَ لِلْعَبْدِ فِيهِ ثُمَّ الْخِطَابُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِلْأَدَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ يَجِبُ بِهِ الثَّمَنُ ثُمَّ يُطَالَبُ بِالْأَدَاءِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQوَمَنْ أَنْكَرَ الْبَعْضَ، وَأَقَرَّ بِالْبَعْضِ فَلَا وَجْهَ لَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ إضَافَةُ بَعْضِ الْأَحْكَامِ إلَى الْأَسْبَابِ بِالدَّلِيلِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ سَائِرُهَا إلَى الْأَسْبَابِ أَيْضًا بِالدَّلِيلِ.
وَقَوْلُهُمْ لَوْ أُضِيفَ الْوُجُوبُ إلَى الْأَسْبَابِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ مُضَافًا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّا لَا نَجْعَلُ الْأَسْبَابَ مُوجِبَةً بِذَوَاتِهَا إذْ الْإِيجَابُ وَالْإِلْزَامُ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مِنْ مُفْتَرِضِ الطَّاعَةِ لَكِنَّ السَّبَبَ مَا يَكُونُ مَوْصِلًا إلَى الْحُكْمِ وَطَرِيقًا إلَيْهِ فَإِضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ مِنْ إضَافَتِهِ إلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ مَنْ قَتَلَ إنْسَانًا بِالسَّيْفِ يَحْصُلُ الْقَتْلُ حَقِيقَةً بِالسَّيْفِ ثُمَّ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ إضَافَتِهِ إلَى الْقَاتِلِ حَتَّى يَجِبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَكَذَا الشِّبَعُ يَحْصُلُ بِالطَّعَامِ وَالرَّيُّ بِالْمَاءِ ثُمَّ يُضَافَانِ إلَى الْمُطْعِمِ وَالسَّاقِي فَكَذَا هَذَا.
وَقَوْلُهُمْ الْأَسْبَابُ كَانَتْ، وَلَا حُكْمَ فَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّا نَجْعَلُهَا مُوجِبَةً بِجَعَلِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا كَذَلِكَ لَا بِأَنْفُسِهَا فَلَا تَكُونُ أَسْبَابًا قَبْلَ ذَلِكَ كَأَسْبَابِ الْعُقُوبَاتِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْخِطَابِ، وَلَمْ تَكُنْ أَسْبَابًا ثُمَّ صَارَتْ أَسْبَابًا بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى.، وَأَمَّا الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَإِنَّمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِبَادَاتُ قَبْلَ بُلُوغِ الْخِطَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْأَدَاءِ فِي حَقِّهِ تَحْقِيقًا، وَلَا تَقْدِيرًا إذْ لَا ثُبُوتَ لِلْخِطَابَاتِ فِي حَقِّهِ أَصْلًا، وَلَا إلَى إيجَابِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ؛ وَلِأَنَّ فِي إيجَابِهَا عَلَيْهِ حَرَجًا لِاجْتِمَاعِ عِبَادَاتٍ كَثِيرَةٍ عَلَيْهِ لِطُولِ مُدَّةِ بَقَائِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَادَةً فَيَسْقُطُ عَنْهُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالْقَصِيرُ لِنُدْرَتِهِ مُلْحَقٌ بِالْكَثِيرِ وَبَاقِي الْكَلَامِ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ، وَقَوْلُهُ (عَلَى الْأَقْسَامِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا) مِنْ كَوْنِ الْأَمْرِ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ، وَمُقَيَّدًا بِهِ، وَكَوْنِهِ إيجَابًا عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ أَوْ التَّضْيِيقِ وَالتَّخْيِيرِ وَغَيْرِهَا.
إنَّمَا يُرَادُ بِهَا أَيْ بِالْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ طَلَبُ الْأَحْكَامِ الْمَشْرُوعَةِ الثَّابِتَةِ قَبْلَ الْخِطَابِ. وَأَدَاؤُهَا تَأْكِيدٌ يَعْنِي الْخِطَابَ لِطَلَبِ أَدَاءِ الْمَشْرُوعَاتِ بِأَسْبَابٍ نَصَبَهَا الشَّرْعُ، وَإِنْ اسْتَقَامَ الْإِيجَابُ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ. لَا أَثَرَ لِلْأَسْبَابِ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي حَقِيقَةِ الْوُجُوبِ بِخِلَافِ السَّبَبِ الْعَقْلِيِّ وَالْحِسِّيِّ فَإِنَّ لَهُمَا أَثَرًا فِي إثْبَاتِ الْمَعْلُولِ بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْ السَّبَبِ كَالْكَسْرِ مَعَ الِانْكِسَارِ وَالْإِحْرَاقِ مَعَ الِاحْتِرَاقِ. وَإِنَّمَا وُضِعَتْ الْأَسْبَابُ لِأَجْلِ التَّيْسِيرِ عَلَى الْعِبَادِ لِيَتَوَصَّلُوا إلَى مَعْرِفَةِ الْوَاجِبَاتِ بِمَعْرِفَةِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ إذْ الْإِيجَابُ الَّذِي هُوَ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ غَيْبًا عَنَّا، وَفِي الْوُقُوفِ عَلَى مَعْرِفَتِهِ حَرَجٌ خُصُوصًا عِنْدَ انْقِطَاعِ زَمَانِ الْوَحْيِ فَوُضِعَتْ الْأَسْبَابُ وَنُسِبَ الْوُجُوبُ إلَيْهَا تَيْسِيرًا، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ أَمَارَاتٌ عَلَى الْإِيجَابِ وَثَبَتَ الْوُجُوبُ جَبْرًا يَعْنِي لَمْ يُشْتَرَطْ لِأَصْلِ الْوُجُوبِ اخْتِيَارُ الْعَبْدِ، وَقُدْرَتُهُ بَلْ يَثْبُتْ بِدُونِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ كَمَا يَثْبُتُ السَّبَبُ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ فَأَمَّا وُجُوبُ الْأَدَاءِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ فَلَا يَنْفَكُّ عَنْ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ عَنَى بِهِ أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَالٍ لَوْ اخْتَارَ الْعَبْدُ فِيهَا الْأَدَاءَ لَقَدَرَ عَلَيْهِ لَا أَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى اخْتِيَارِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إنْ اخْتَارَ وُجُوبَهُ ثَبَتَ، وَإِلَّا فَلَا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ يَثْبُتُ بِالسَّبَبِ خَبَرًا، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَدَاءِ وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ يَثْبُتُ بِالْخِطَابِ جَبْرًا، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَدَاءِ أَعْنِي قُدْرَةَ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ، وَوُجُودُ الْأَدَاءِ يَتَوَقَّفُ عَلَى اخْتِيَارِهِ الْفِعْلُ. وَلَا يُقَالُ مَا ذَكَرْتُمْ لَا يَسْتَقِيمُ فِي النَّهْيِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْوَاجِبُ بِالنَّهْيِ انْتِهَاءُ الْعَبْدِ عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ فَانْتِهَاؤُهُ وَامْتِنَاعُهُ عَنْهُ يَكُونُ أَدَاءً