. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلَا تُضَافُ إلَّا إلَى إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَخِطَابِهِ.، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ الْأَسْبَابَ أَصْلًا، وَقَالُوا الْحُكْمُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يَثْبُتُ بِظَاهِرِ النَّصِّ، وَفِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يَتَعَلَّقُ بِالْوَصْفِ الَّذِي جُعِلَ عِلَّةً، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَمَارَةً لِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِثْبَاتِهِ مُتَمَسِّكِينَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْأَحْكَامِ وَالشَّارِعَ لَهَا هُوَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ كَمَا أَنَّ مُوجِبَ الْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ وَخَالِقَهَا هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَصِفَةُ الْإِيجَابِ صِفَةٌ خَاصَّةٌ لَهُ لَا يَجُوزُ اتِّصَافُ الْغَيْرِ بِهَا كَصِفَةِ التَّخْلِيقِ فَكَانَ فِي إضَافَةِ الْإِيجَابِ إلَى الْأَسْبَابِ قَطْعُهُ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَكِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ بَعْضَ أَوْصَافِ النَّصِّ عَلَامَةً، وَأَمَارَةً عَلَى الْحُكْمِ فِي الْفُرُوعِ فَيُقَالُ أَسْبَابٌ مُوجِبَةٌ أَوْ عِلَلٌ مُوجِبَةٌ مَجَازًا لِظُهُورِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهَا.
وَبِأَنَّ الْأَسْبَابَ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ بِمَنْزِلَةِ الْآلَاتِ وَالْجَوَارِحِ السَّلِيمَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ قُدْرَةَ الْعِبَادِ نَاقِصَةٌ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي الْمَحَالِّ إلَّا بِأَسْبَابٍ وَآلَاتٍ فَيَكُونُ عَمَلُهَا فِي تَتْمِيمِ الْقُدْرَةِ النَّاقِصَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ وُجُوبُ أَحْكَامِهِ وَوُجُودُهَا بِالْأَسْبَابِ حَقِيقَةً. وَبِأَنَّ الْأَسْبَابَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الشَّرْعِ، وَلَا أَحْكَامَ مَعَهَا، وَقَدْ تُوجَدُ بِغَيْرِ الشَّرْعِ أَيْضًا بِلَا أَحْكَامٍ كَمَا فِي الْمَجَانِينِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَوْ كَانَتْ عِلَلًا لِلْأَحْكَامِ لَمْ يُتَصَوَّرْ انْفِكَاكُهَا عَنْ الْأَحْكَامِ كَمَا فِي الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ فَإِنَّ الْكَسْرَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الِانْكِسَارِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ لَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَهُوَ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا، وَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ بِالْأَسْبَابِ دُونَ الْخِطَابِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْعِبَادَاتُ لِتَحَقُّقِ الْأَسْبَابِ فِي حَقِّهِ. وَتَمَسَّكَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا بِأَنَّ الْعِبَادَاتِ وَجَبَتْ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ فَتُضَافُ إلَى إيجَابِهِ؛ لِأَنَّا مَا عَرَفْنَا وُجُوبَهَا إلَّا بِالشَّرْعِ، وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ فَتُضَافُ إلَى الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّهَا أَجْزِيَةُ الْأَفْعَالِ الْمَحْظُورَةِ فَتُضَافُ إلَيْهَا تَغْلِيظًا، وَكَذَا الْمُعَامَلَاتُ تُضَافُ إلَى الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّهَا حَاصِلَةٌ بِكَسْبِ الْعَبْدِ فَتُضَافُ إلَيْهِ.
وَبِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْعِبَادَاتِ لَيْسَ إلَّا الْفِعْلُ وَوُجُوبُهُ بِالْخِطَابِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يُمْكِنُ إضَافَتُهُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ فَأَمَّا الْمُعَامَلَاتُ فَالْوَاجِبُ فِيهَا شَيْئَانِ الْمَالُ وَالْفِعْلُ فَيُمْكِنُ إضَافَةُ وُجُوبِ الْمَالِ إلَى السَّبَبِ، وَإِضَافَةُ وُجُوبِ الْفِعْلِ إلَى الْخِطَابِ، وَكَذَا الْعُقُوبَاتُ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْجَانِي لَيْسَ إلَّا تَسْلِيمُ النَّفْسِ وَتَحَمُّلُ الْعُقُوبَةِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْفِعْلُ عَلَى الْوُلَاةِ فَيَجُوزُ أَنْ يُضَافَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ إلَى السَّبَبِ، وَمَا وَجَبَ عَلَى الْوُلَاةِ إلَى الْخِطَابِ إلَيْهِمْ حَيْثُ قِيلَ {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] . فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَجُوزُ أَنْ تُضَافَ الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ إلَى الْأَسْبَابِ عِنْدَهُمْ أَيْضًا.
وَأَمَّا الْعَامَّةُ فَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ لِلْعِبَادَاتِ أَسْبَابًا يُضَافُ وُجُوبُهَا إلَيْهَا وَالْمُوجِبُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا شَرَعَ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ أَسْبَابًا يُضَافُ الْوُجُوبُ إلَيْهَا، وَالْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَجَعَلَ سَبَبَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ الْقَتْلَ وَسَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ الْإِتْلَافَ وَسَبَبَ مِلْكِ الْوَاطِئِ النِّكَاحَ، فَكَذَا شَرَعَ لِوُجُوبِ الْعِبَادَاتِ أَسْبَابًا أَيْضًا. فَمَنْ أَنْكَرَ جَمِيعَ الْأَسْبَابِ وَعَطَّلَهَا، وَأَضَافَ الْإِيجَابَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ خَالَفَ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ وَصَارَ جَبْرِيًّا خَارِجًا عَنْ مَذْهَبِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ