وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الْآيَةَ سِيَاقُهَا الْإِيجَابُ نَوْعٌ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي جِهَةِ الْإِطْعَامِ الْإِبَاحَةُ وَالتَّمْلِيكُ مُلْحَقٌ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ فِعْلُ مُتَعَدٍّ مُطَاوِعُهُ طَعِمَ يَطْعَمُ وَهُوَ الْأَكْلُ فَالْإِطْعَامُ جَعْلُهُ أَكْلًا كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ إذَا تَعَدَّتْ بِزِيَادَةِ الْهَمْزَةِ لَمْ تَبْطُلْ وَضْعُهَا وَحَقِيقَتُهَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُطَاوِعُهُ مِلْكًا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيهِ تَمْلِيكًا هَذَا وَاضِحٌ جِدًّا
ـــــــــــــــــــــــــــــQنَفْسِك بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» وَبِأَنَّ مَبْنَى الْعِبَادَةِ عَلَى التَّوَاضُعِ وَالتَّذَلُّلِ، وَالسُّجُودُ هُوَ النِّهَايَةُ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يُوجَدْ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ دَلِيلٌ يُوجِبُ مَزِيَّةَ الْجِمَاعِ عَلَى غَيْرِهِ فَكَانَ مُسَاوِيًا لِلْأَكْلِ مَعَ أَنَّ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى ذَلِكَ الْخِطَابِ وَهُوَ الْوُجُوبُ مُتَسَاوِيَةٌ أَيْضًا.
عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَرْكَانَهَا تَثْبُتُ بِذَلِكَ الْخِطَابِ بَلْ ثَبَتَ كُلُّ رُكْنٍ بَعْدَ وُجُوبِ أَصْلِ الصَّلَاةِ مُجْمَلًا بِخِطَابٍ عَلَى حِدَةٍ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] . وَنَحْوُهَا. وَفِيهِ أَيْ وَفِي هَذَا النَّصِّ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النِّيَّةَ مِنْ النَّهَارِ هِيَ الَّتِي ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ الْأَفْعَالَ الْمَذْكُورَةَ إلَى الِانْفِجَارِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالصِّيَامِ بَعْدَ الِانْفِجَارِ بِقَوْلِهِ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وَحَرْفُ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي فَإِذَا ابْتَدَأَ الصِّيَامَ بَعْدَهُ حَصَلَتْ النِّيَّةُ بَعْدَمَا مَضَى جُزْءٌ مِنْ النَّهَارِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِالْعِبَادَةِ فَبِالنَّظَرِ إلَى مُوجِبِ هَذَا النَّصِّ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجُوزَ النِّيَّةُ مِنْ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْأَدَاءِ قَبْلَ وَقْتِ الْأَدَاءِ حَقِيقَةً وَاللَّيْلُ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْأَدَاءِ لَكِنَّا جَوَّزْنَاهَا بِالسُّنَّةِ وَهِيَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
«لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» . وَهُوَ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ يُوجِبُ الْعَمَلَ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِهِ، فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا مِنْ اللَّيْلِ أَدَّى إلَى نَسْخِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَقُلْنَا بِالْجَوَازِ فِيهِمَا عَمَلًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ جَمِيعًا.
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَالنِّيَّةُ مِنْ اللَّيْلِ أَفْضَلُ بِالِاتِّفَاقِ؟ قُلْنَا: إنَّمَا صَارَتْ أَفْضَلَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمُسَارَعَةِ إلَى الْأَدَاءِ وَالتَّأَهُّبِ لَهُ لَا لِإِكْمَالِ الصَّوْمِ كَمَا أَنَّ الِابْتِكَارَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْلَى لِلْمُسَارَعَةِ لَا لِتَعَلُّقِ كَمَالِ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا بِهِ، وَكَذَا الْمُبَادَرَةُ إلَى سَائِرِ الصَّلَاةِ أَوْ لِلْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ لِيَخْرُجَ عَنْ حَدِّ الْخِلَافِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْخَبَّازَ السَّمَرْقَنْدِيَّ هُوَ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَلَكِنْ لِلْخُصُومِ أَنْ يَقُولُوا: إنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالصِّيَامِ بَعْدَ الِانْفِجَارِ وَهُوَ اسْمٌ لِلرُّكْنِ لَا لِلشَّرْطِ وَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَحْصِيلِ الشَّرْطِ بَعْدَ الِانْفِجَارِ فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى مَا قُلْتُمْ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالصَّوْمِ بَعْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ يَنْبَغِي أَنْ يُوجَدَ الْإِمْسَاكُ الَّذِي هُوَ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ عَقِيبَ آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ مُتَّصِلًا بِهِ بِلَا فَصْلٍ لِيَصِيرَ الْمَأْمُورُ مُمْتَثِلًا وَأَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاكُ صَوْمًا شَرْعِيًّا بِدُونِ النِّيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلْإِمْسَاكِ الْمَوْجُودِ فِي أَوَّلِ أَجْزَاءِ الْيَوْمِ لِيَكُونَ صَوْمًا وَأَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، إلَّا بِأَحَدِ طَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا وُجُودُهَا لِلْحَالِ مُقَارِنَةً لَهُ وَالْآخَرُ وُجُودُهَا فِي اللَّيْلِ لِتُجْعَلَ بَاقِيَةً حُكْمًا إلَى وَقْتِ انْفِجَارِ الصُّبْحِ فَتَصِيرَ مُقَارِنَةً فِي أَوَّلِ أَجْزَاءِ النَّهَارِ فَإِذَنْ كَانَتْ الْآيَةُ دَلِيلًا لَنَا هَكَذَا ذَكَرَ فِي طَرِيقَتِهِ. وَفِي كَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تُنَافِي الصَّوْمَ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ لَمَّا كَانَتْ مُبَاحَةً إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ فَالِاغْتِسَالُ يَكُونُ بَعْدَ الْفَجْرِ يَكُونُ ضَرُورَةً، وَإِلَّا وَجَبَ أَنْ تَحْرُمَ الْمُبَاشَرَةُ قَبْلَ آخِرِ اللَّيْلِ بِمِقْدَارِ مَا يَسَعُ لِلْغُسْلِ فَيَكُونُ رَدًّا لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْجَنَابَةَ تَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّوْمِ مُعْتَمِدِينَ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ قَالَهُ مُحَمَّدٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ» مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ، ثُمَّ يُتِمُّ صَوْمَهُ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ» .
وَمُؤَوَّلٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَنْ أَصْبَحَ بِصِفَةٍ تُوجِبُ الْجَنَابَةَ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُخَالِطًا لِأَهْلِهِ فَلَا صَوْمَ لَهُ قَوْلُهُ قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إلَى مَا فِي " بِمَا عَقَدْتُمْ " أَيْ فَكَفَّارَةُ نَكْثِ مَا عَقَدْتُمْ.
وَالْكَفَّارَةُ الْفَعْلَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُكَفِّرَ الْخَطِيئَةَ ثُمَّ أَنَّهَا تَتَأَدَّى بِطَعَامِ الْإِبَاحَةِ غَدَاءً وَعَشَاءً مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ عِنْدَنَا وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ غَدَاؤُهُ وَعَشَاؤُهُ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالْقَاسِمُ وَسَالِمٌ وَالشَّعْبِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ