وَقَدْ وَرَدَ بَيَانُهُ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ بِالسُّنَّةِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ نَزَلَ بِالْحَدِّ عَلَى أَصْحَابِ أَبِي بُرْدَةَ عَلَى التَّفْصِيلِ فَأَمَّا فِيمَا سَبَقَ فَلَا أَنْوَاعَ لِلْجِنَايَةِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَجْزِيَةِ فَأَوْجَبَ التَّخْيِيرَ وَهَذَا لِأَنَّ مُقَابَلَةَ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ يُوجِبُ التَّقْسِيمَ لَا مَحَالَةَ وَالْجِنَايَةُ بِأَنْوَاعِهَا لَا تَقَعُ إلَّا مَعْلُومَةً فَكَذَلِكَ الْجَزَاءُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQكَذَا فِي الْكَشَّافِ وَالْمَبْسُوطِ وَأُشِيرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ إلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ وَالْقَطْعِ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ قَطْعِ الطَّرِيقِ عِنْدَهُمْ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى النَّفْيِ لِأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ التَّخْيِيرَ لَمْ يَجْعَلْ النَّفْيَ جَزَاءً عَلَى حِدَةٍ بَلْ حَمَلَ كَلِمَةَ أَوْ فِي قَوْلِهِ {أَوْ يُنْفَوْا} [المائدة: 33] عَلَى الْوَاوِ وَالنَّفْيَ عَلَى الْقَتْلِ فَكَانَ بِمَعْنَاهُ وَيُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ بِالْقَتْلِ وَالصَّلْبِ قَالُوا كَلِمَةُ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ بِحَقِيقَتِهَا فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا إلَى أَنْ يَقُومَ دَلِيلُ الْمَجَازِ لِأَنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ فِي ذَاتِهِ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ وَهَذِهِ الْأَجْزِيَةُ ذُكِرَتْ بِمُقَابَلَتِهَا فَيَصْلُحُ كُلُّ وَاحِدٍ جَزَاءً لَهُ فَيَثْبُتُ التَّخْيِيرُ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالتَّخْيِيرِ هَهُنَا لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى حَسَبِ الْجِنَايَةِ يَزْدَادُ بِزِيَادَتِهَا وَيَنْتَقِصُ بِنُقْصَانِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ عِنْدَ غِلَظِ الْجِنَايَةِ يُعَاقَبُ بِأَخَفِّ الْأَنْوَاعِ وَعِنْدَ خِفَّتِهَا بِأَغْلَظِ الْأَنْوَاعِ تَقْرِيرُهُ أَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ أَوْ آخِذَ الْمَالِ لَا يُجَازَى بِالنَّفْيِ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْأَجْزِيَةِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْكُلِّ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ التَّخْيِيرِ كَذَا فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ
1 -
ثُمَّ الْمُحَارَبَةُ أَنْوَاعٌ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا مَعْلُومٌ مِنْ تَخْوِيفٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ أَوْ جَمْعٍ بَيْنَ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ تَتَفَاوَتُ فِي صِفَةِ الْجِنَايَةِ وَالْمَذْكُورُ أَجْزِيَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي مَعْنَى التَّشْدِيدِ فَوَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ بِتِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ عَنْ بَيَانِ تَقْسِيمِ الْأَجْزِيَةِ عَلَى أَنْوَاعِ الْجِنَايَةِ نَصًّا وَهَذَا التَّقْسِيمُ ثَابِتٌ بِأَصْلٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ أَنَّ الْجُمْلَةَ إذَا قُوبِلَتْ بِالْجُمْلَةِ يَنْقَسِمُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ يَسْأَلُ عَنْ حُدُودِ الْكَبَائِرِ هِيَ جَلْدٌ مِائَةً أَوْ ثَمَانِينَ أَوْ الرَّجْمُ أَوْ الْقَطْعُ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّقْسِيمُ وَالتَّفْصِيلُ لَا التَّخْيِيرُ فَكَذَا هَهُنَا وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى النَّصِّ أَنَّ جَزَاءَ الْمُحَارِبِينَ لَا يَخْلُو عَنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ إمَّا أَنْ يُقَتَّلُوا مِنْ غَيْرِ صَلْبٍ إنْ أَفْرَدُوا الْقَتْلَ أَوْ يُصَلَّبُوا مَعَ الْقَتْلِ إنْ جَمَعُوا بَيْنَ الْأَخْذِ وَالْقَتْلِ {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] إنْ أَفْرَدُوا الْأَخْذَ قَطْعُ الْيَدِ لِأَخْذِ الْمَالِ وَالرِّجْلِ لِإِخَافَةِ السَّبِيلِ أَوْ لِتَغَلُّظِ الْجِنَايَةِ بِالْمُجَاهَرَةِ {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] بِالْحَبْسِ إنْ أَفْرَدُوا الْإِخَافَةَ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ مَتَى ذُكِرَتْ بَيْنَ الْأَجْزِيَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَسْبَابِ يُرَادُ بِهَا التَّرْتِيبُ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَإِلَّا فَهِيَ لِلتَّخْيِيرِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ.
قَوْلُهُ (وَقَدْ وَرَدَ بَيَانُهُ) أَيْ بَيَانُ الْحَدِّ الْمَذْكُورِ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ وَهُوَ التَّقْسِيمُ عَلَى أَحْوَالِ الْجِنَايَةِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَادَعَ أَبَا بُرْدَةَ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَبَا بَرْزَةَ هِلَالَ بْنَ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيِّ وَهُوَ الْأَصَحُّ عَلَى أَنْ لَا يُعِينَهُ وَلَا يُعِينَ عَلَيْهِ فَجَاءَ أُنَاسٌ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ فَقَطَعَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُهُ الطَّرِيقَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْحَدِّ فِيهِمْ أَنَّ مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ قُتِلَ وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ وَمَنْ جَاءَ مُسْلِمًا هَدَمَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الشِّرْكِ» وَفِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ عَنْهُ «وَمَنْ أَخَافَ الطَّرِيقَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ نُفِيَ» فَفِي هَذَا الْخَبَرِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ هَهُنَا لِلتَّفْصِيلِ دُونَ التَّخْيِيرِ (فَإِنْ قِيلَ) فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ قَطَعُوا عَلَى أُنَاسٍ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ وَبِنَفْسِ الْإِرَادَةِ لَا يَثْبُتُ الْإِسْلَامُ وَلَا يَخْرُجُ الْكَافِرُ عَنْ كَوْنِهِ حَرْبِيًّا وَقَدْ ثَبَتَ