وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كُلِّفَ الْمُتَحَرِّي إصَابَةَ حَقِيقَةِ الْكَعْبَةِ حَتَّى إذَا أَخْطَأَ أَعَادَ صَلَاتَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي حَقِّ نَفْسِ الْعَمَلِ مُصِيبٌ فَكَانَ الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ وَالِاجْتِهَادُ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ سَوَاءً فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لِلْحَقِّ حَقِيقَةً.
قَوْلُهُ: (وَهَذَا عِنْدَنَا) أَيْ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُتَحَرِّيَ لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَةَ الْكَعْبَةِ، وَإِنَّمَا كُلِّفَ طَلَبَهُ عَلَى رَجَاءِ الْإِصَابَةِ مَذْهَبُنَا. فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَالْمُتَحَرِّي كُلِّفَ إصَابَةَ حَقِيقَةِ الْكَعْبَةِ حَتَّى إذَا أَخْطَأَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِأَنْ اسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ إذَا عَلِمَ بِهِ فَعَلَى قَوْلِهِ لَا يَصِحُّ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَصْلًا. احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ فِي حَقِّ الْغَائِبِينَ عَنْهَا، وَانْقِطَاعُ دَلِيلِ الْعِيَانِ ثَابِتٌ عَلَى تَحْقِيقِ الْإِصَابَةِ يَقِينًا بِأَنَّ طَرِيقَ الْإِصَابَةِ مِمَّا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ لَوْ تَكَلَّفَ الْعَبْدُ لِمَعْرِفَةِ تَرْكِيبِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَكَيْفِيَّةِ جِهَاتِ الْأَقَالِيمِ إلَّا أَنَّهُ عُذِرَ دُونَهُ بِسَبَبِ الْحَرَجِ فَكَانَ مُبِيحًا لَا مُسْقِطًا أَصْلًا فَبَقِيَ أَصْلُ الْأَمْرِ مُتَعَلِّقًا بِالْإِصَابَةِ حَقِيقَةً فَمَتَى ظَهَرَ الْخَطَأُ يَقِينًا لَزِمَتْ الْإِعَادَةُ كَالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ أُبِيحَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخَالِفَ النَّصَّ وَعُذِرَ فِي الْعَمَلِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ عَدَمُ النَّصِّ، وَلَمْ يَتَكَلَّفْ كُلَّ التَّكْلِيفِ فِي طَلَبِ النَّصِّ، وَلَكِنْ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ أَصْلُ الْخِطَابِ فَأُبِيحَ لَهُ الْعَمَلُ بِشَرْطِ أَنَّهُ إنْ ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ فَسَدَ عَمَلُهُ.
وَأَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بَنَوْا وُجُوبَ طَلَبِ الْكَعْبَةِ بَعْدَ الْغَيْبَةِ عَنْهَا عَلَى الدَّلَائِلِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا كَثِيرُ حَرَجٍ لَا عَلَى مَا لَيْسَ بِمُعْتَادٍ، وَلَا مَأْمُورٍ بِهِ بِالشَّرْعِ مِنْ عِلْمِ الْهَنْدَسَةِ، وَكَيْفِيَّةِ تَرْكِيبِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالدَّلَائِلِ الْمُعْتَادَةِ مِنْ الشَّمْسِ وَالنُّجُومِ لَا تُوَصِّلُنَا إلَى حَقِيقَةِ الْكَعْبَةِ بَلْ هِيَ مُطْمِعَةٌ فَسَقَطَ الْخِطَابُ بِإِصَابَةِ الْحَقِيقَةِ لِقُصُورِ الْحُجَّةِ، وَلَزِمَهُ الْعَمَلُ بِالتَّوَجُّهِ إلَى جِهَةٍ فِيهَا رَجَاءُ إصَابَةِ الْكَعْبَةِ فَإِذَا فُقِدَتْ النُّجُومُ وَالْمَحَارِيبُ الْمَنْصُوبَةُ، وَأَخْبَارُ النَّاسِ عَنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَوَجَبَ الْعَمَلُ بِرَأْيِ الْقَلْبِ، وَهَذَا الرَّأْيُ لَا يُوَصِّلُهُ إلَى الْجِهَةِ الظَّاهِرَةِ حَالَ ظُهُورِ الشَّمْسِ وَالْمَحَارِيبِ سَقَطَ إصَابَةُ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَلَزِمَهُ التَّوَجُّهُ إلَى جِهَةٍ فِيهَا رَجَاءُ إصَابَةِ الْمِحْرَابِ الظَّاهِرِ فَإِذَا عَمِلَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ صَارَ مُؤْتَمِرًا بِالْأَمْرِ فَلَا يَقَعُ عَمَلُهُ فَاسِدًا بِتَرْكِ مَا تَرَكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ بِخِلَافِ حَادِثَةٍ فِيهَا نَصٌّ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ وَعَمِلَ بِالرَّأْيِ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ كُلِّفَ الْعَمَلَ بِالرَّأْيِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخَالِفَهُ نَصٌّ، وَالنَّصُّ الَّذِي يُخَالِفُهُ مِمَّا يَنَالُهُ حَالَةَ الْحَاجَةِ إلَى الْعَمَلِ بِهِ لَوْلَا تَقْصِيرٌ مِنْهُ فِي الطَّلَبِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ طَلَبَهُ مِنْ قَبْلُ أَمْكَنَهُ الْعَمَلُ بِهِ حَالَ حَاجَتِهِ هَذِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ زَوَالَ هَذَا الْجَهْلِ مَقْرُونٌ بِمَعْنًى يُوجَدُ مِنْهُ لَا يَتَبَدَّلُ حَالَ الدَّلِيلِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا الْخَطَأُ فِي بَابِ الْقِبْلَةِ فَيَتَبَدَّلُ بِهِ حَالَ الدَّلِيلِ بِزَوَالِ الْغَيْمِ وَظُهُورِ النَّجْمِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ سَمَاوِيٌّ تَبَدَّلَ بِهِ حَالُ الدَّلِيلِ فَكَانَ وَرَاءَهُ نُزُولُ نَصٍّ بَعْدَمَا عَمِلَ بِالِاجْتِهَادِ بِخِلَافِهِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى نَقُولُ فِيمَنْ اجْتَهَدَ وَتَوَضَّأَ بِمَاءٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ نَجِسٌ أَنَّهُ يُعِيدُ الصَّلَاةَ، وَكَذَلِكَ الثَّوْبُ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ الْعِلْمِ بِتِلْكَ النَّجَاسَةِ الْخَبَرُ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلِقُصُورٍ مِنْهُ فِي طَلَبِهِ وَقَعَ الْجَهْلُ، وَالْخَبَرُ عَنْ الْقِبْلَةِ، وَإِنْ بَلَغَهُ فِي مَوْضِعِهِ لَا يَنْفَعُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَلَا يَبْقَى إلَّا النَّجْمُ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الدَّلِيلِ مُعَارَضٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَعَلَ الِاقْتِدَاءَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ هُدًى بِقَوْلِهِ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَحْكَامٍ نَفْيًا، وَإِثْبَاتًا فَلَوْ كَانَ الْحَقُّ وَاحِدًا لَمْ يَكُنْ الِاقْتِدَاءُ بِالْكُلِّ هُدًى. وَبِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي الْمَسَائِلِ، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ قَوْلًا وَصَوَّبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا