وَدَلِيلُ مَا قُلْنَا مِنْ الْمَذْهَبِ لِأَصْحَابِنَا فِي أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْقِبْلَةِ فَإِنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَحَرِّيَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ أَيْضًا كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي قَوْمٍ صَلَّوْا جَمَاعَةً وَتَحَرُّوا الْقِبْلَةَ وَاخْتَلِفُوا فَمَنْ عَلِمَ مِنْهُمْ حَالَ إمَامِهِ، وَهُوَ مُخَالِفُهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُخْطِئٌ لِلْقِبْلَةِ عِنْدَهُ وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ صَوَابًا وَالْجِهَاتُ قِبْلَةً لَمَا فَسَدَتْ وَلَمَا كُلِّفُوا التَّحَرِّيَ وَالطَّلَبَ كَالْجَمَاعَةِ إذَا صَلَّوْا فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْمُخْطِئَ لِلْقِبْلَةِ لَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ فَلِأَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ إصَابَةَ الْكَعْبَةِ يَقِينًا بَلْ كُلِّفَ طَلَبَهُ عَلَى رَجَاءِ الْإِصَابَةِ لَكِنَّ الْكَعْبَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ ابْتِلَاءٌ فَإِذَا حَصَلَ الِابْتِلَاءُ بِمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ رَجَاءِ الْإِصَابَةِ وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ طَلَبُ وَجْهِ اللَّهِ سَقَطَتْ حَقِيقَتُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَفَسَادَهَا مِنْ صِفَاتِ الْعَمَلِ، وَالْمُخْطِئُ فِي حَقِّ نَفْسِ الْعَمَلِ مُصِيبٌ فَثَبَتَ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْقِبْلَةِ، وَمَسْأَلَتَنَا سَوَاءٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــQاجْتِهَادُهُ إلَى هَذَا الطَّرِيقِ نَفَذَ حُكْمُهُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَضَاءَهُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفُرْقَةِ، وَمَحَلَّهَا غَيْرُ مَذْكُورَيْنِ فِي النَّصِّ، وَهَذَا الِاجْتِهَادُ فِي مَحَلِّ الْفُرْقَةِ فَإِنَّ مَنْ أَبْطَلَ هَذَا الْقَضَاءَ يَقُولُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ، وَإِنْ أَتَمَّتْ الْمَرْأَةُ اللِّعَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ، وَإِنْ تَمَّ الزَّوْجُ اللِّعَانَ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الْفُرْقَةُ عِنْدَهُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَوْلُهُ: (وَدَلِيلُ مَا قُلْنَا مِنْ الْمَذْهَبِ) يَعْنِي الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ كَثِيرٌ فِي كُتُبِهِمْ سِوَى هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ مِثْلُ مَسْأَلَةِ التَّحَرِّي، وَمِثْلُ مَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كُتُبِهِ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِرَأْيِ نَفْسِهِ فِي حَادِثَةٍ اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ نَفَذَ عَلَى الْكُلِّ وَثَبَتَ صِحَّتُهُ فِي حَقِّ مَنْ يُخَالِفُهُ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْمُخَالِفِ هَذَا الْقَاضِي مُخْطِئًا لِلْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إنَّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُنَا مِنْ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ كَثِيرٌ فِي كُتُبِهِمْ سِوَى الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.

ثُمَّ أَجَابَ عَنْ مَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ. فَقَالَ فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْقِبْلَةِ إلَى آخِرِهِ يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي الْقِبْلَةِ مُصِيبٌ لَا مَحَالَةَ بَلْ الْمُجْتَهِدُ فِيهَا يُخْطِئُ وَيُصِيبُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ اسْتِدْلَالًا بِالْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ. وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ مُصِيبًا لَا مَحَالَةَ لَوَجَبَ عَلَى الْمُخْطِئِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ كَمَا لَوْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ طَاهِرٌ. فَتَعَرَّضَ لِلْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا قَوْلُهُ أَيْ قَوْلُ مَنْ ادَّعَى الْحُقُوقَ إنَّ الْمُخْطِئَ لِلْقِبْلَةِ لَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ وَجَوَابُ أَمَّا مَحْذُوفٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالتَّقْدِيرُ أَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْمُخْطِئَ لَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى مَا ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْمُجْتَهِدَ فِي الْقِبْلَةِ أَوْ الْمَأْمُورَ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَةَ حَقِيقَةِ الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي وُسْعِهِ لِانْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ. بَلْ كُلِّفَ طَلَبَهُ أَيْ طَلَبَ الْكَعْبَةِ بِتَأْوِيلِ الْبَيْتِ عَلَى رَجَاءِ الْإِصَابَةِ.، وَلَكِنْ الْكَعْبَةُ اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ بَلْ كُلِّفَ طَلَبَهُ يَعْنِي التَّكْلِيفَ بِطَلَبِ الْكَعْبَةِ، وَإِنْ تَحَقَّقَ لَكِنَّ الْكَعْبَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بِعَيْنِهَا فِي هَذَا التَّكْلِيفِ وَلِهَذَا لَوْ قَصَدَ بِالتَّوَجُّهِ التَّعْظِيمَ لِلْكَعْبَةِ وَالْعِبَادَةَ لَهَا يُكَفَّرُ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَيْنَهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الشَّرْعِ، وَلَمْ تَكُنْ قَبْلَهُ.

وَقَدْ يَنْتَقِلُ وُجُوبُ التَّوَجُّهِ مِنْ عَيْنِهَا إلَى جِهَتِهَا عِنْدَ الْغَيْبَةِ، وَمِنْ جِهَتِهَا إلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ التَّحَرِّي عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَإِلَى أَيِّ جِهَةٍ تَوَجَّهَتْ الدَّابَّةُ أَوْ السَّفِينَةُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الدَّابَّةِ وَالسَّفِينَةِ فَثَبَتَ أَنَّ عَيْنَهَا لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ رِضَاهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] وَاسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ ابْتِدَاءٌ كَمَا كَانَ اسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ابْتِدَاءً. فَإِذَا حَصَلَ الِابْتِدَاءُ فِي حَالَةِ الِاشْتِبَاهِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى مَا شَهِدَ قَلْبُهُ أَنَّهُ جِهَةُ الْكَعْبَةِ وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ طَلَبُ وَجْهِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا التَّوَجُّهِ. سَقَطَتْ حَقِيقَتُهُ أَيْ حَقِيقَةُ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ لَا يُبَالِي بِفَوَاتِ الْوَسِيلَةِ وَصَارَ التَّوَجُّهُ إلَى جِهَةِ التَّحَرِّي عِنْدَ الِاضْطِرَارِ كَالتَّوَجُّهِ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ بِاعْتِبَارِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ الْإِعَادَةُ. ثُمَّ اسْتَوْضَحَ فَسَادَ اسْتِدْلَالِهِمْ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ أَلَا تَرَى أَنَّ جَوَازَ الْعِبَادَةِ، وَفَسَادَهَا مِنْ صِفَاتِ الْعَمَلِ يُقَالُ عَمَلٌ جَائِزٌ وَعَمَلٌ فَاسِدٌ لَا مِنْ صِفَاتِ مَا هُوَ الْحَقُّ حَقِيقَةً، وَنَحْنُ نُسَاعِدُكُمْ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015