بـ ((دعوة التجار، )) وقبحوا فيها آثارهم بمدح الطعام، وذكر كيفية الحال. لا بد أن يكون بينهما فرق أوجب لهؤلاء المدح أو الإمساك عن القدح، وأوجب لهؤلاء القدح فيما اعتمدوه من الوصف. فإن لم تكن علة توجب الفرق، فهو الظلم الصرف والبغي البحت.
وأصل هذه الرذيلة في أهل الحضر وعلتها إنما هي تكدير الأطعمة بالنظر إليها بعين التعظيم الذي لا يخلو من نوع افتخار بذلك، وامتنان على الآكلين لذلك الطعام. وهذه علة لا تختص أهل الحضر؛ فلم خصوا بالذم عليها دون أهل البدو؟
قال الحنبلي: وأنا أخرج معنى كلامهم هذا إلى الوجود، وأعرضه على المعقول؛ فإن أبته فهو رذيلة، وإن استحسنته فهو فضيلة. فأقول: رجل في الحضر أتاه مسافر قريب عهد بشقاء السفر. فأخذ يصف تغير وجهه وجسمه ونحافته، وذكر حسن استقباله، ومبادرته بالكلام المقوي لنفسه. ثم عدل عن ذكر ما ظهر من تغير وجهه إلى المسرة بكلام. ثم عاد يذكر أغنامًا له، ويصف شاةً اختارها للذبح لضيافة ذلك الضيف، وشحمها ولحمها. ثم أخذ في وصف الشفرة التي اعتمد على تناولها، وذكر لوم الراعي له على ذبحها، وتأسفه على إراقة دمها، والأسف بها، ووده بأن يفديها بنفسه وأهله. فلو سمع الحضري وأهل الحضر ذلك، لتعير بذلك العار الذي لا يغسله الماء، ولا يبليه الدهر، ولود ذلك الضيف أنه مات جوعًا ولم يتعرض للنزول به وعليه.