حمد المنعم في دار التكليف عبادة وشكر؛ وغدًا، شكر بلا عبادة. والله لقد تحقق العارفون أن جمال الأركان بطاعات الإيمان أكثر من جمالها باستيفاء اللذات في دار المجازاة؛ واحتماءها عن الحرام في هذه الدار مراقبة لطاعة الله، وحذرًا من سخط الله، أكثر وأكبر من تناولها هناك وانبساطها في جوار الله. ولولا بقايا من الخدم في دار النعم، لما وازن ذلك البقاء السرمد هذا البقاء الذي عن قليل ينفد. لكن المعرف هناك تقوى، وعوارض الشكوك تنحسم باليقين.
وقد قال الرجال قبلي، كيحيى بن معاذ: والله إنهم اليوم في قراطق الخدمة، أحسن منهم غدًا في غلائل النعمة. وأنا أقول: الخدم أوجبت لهم مدحة الحق، والنعم أوجبت منه الحق؛ وبين المدحة والمنة بون. قال فيهم على سبيل المدحة: {رجال صدقوا}، {رجال لا تلهيهم}، {رجال يحبون أن يتطهروا}، {يوفون بالنذر ويخافون يومًا}، {سيماهم في وجوههم من أثر السجود}، {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنين مرصوص}. هذا أنبل وأجل في مسامع العقلاء المميزين من أوصافهم باستيفاء اللذات: {وفاكهة مما يتخيرون}، {ولحم طير مما يشتهون}، {وحور عين}، {متكئين فيها على الأرائك}، {ويطوف عليهم ولدان مخلدون}، {بأكواب وأباريق وكأس من معين}. لأن هذه أوصاف نعمة عليهم، وتلك أوصاف خدمتهم له؛ وأحسن حالتي العبيد حال الخدم وزي التبتل، لا الاستناد والتعطل. لكن تجملت الجنة على الدنيا بعلم اليقين.