الأسفار لقطع ذلك وحسمه من الأذكار، وقد كان الخواص لا يقيم في بلد أكثر من أربعين يوماً ويرى إنّ ذلك علّة في توكله فيعمل في اختبار نفسه وكشف حاله.
وحدثنا عن بعض الشيوخ قال: لبثت في البرية أحد عشر يوماً لم أطعم شيئاً،، وتطّلعت نفسي أن تعرّج على حشيش البرية، فرأيت الخضر مقبلاً نحوي فهربت منه، فلما ولّيت عنه هارباً التفتّ إليه، فإذا هو قد رجع عني، فانظروا إلى وليّ الله عزّ وجلّ كيف لم يفسد على توكلّي، فقيل له: لِمَ هربت منه؟ قال: تشوّفت نفسي أن يقيتني، وعلى المسافر من أهل القلوب أن يفرّق بين سكون القلب إلى الوطن والسفر، وبين سكون النفس إليهما، فإنّ ذلك قد يلتبس فيحسب من لا بصيرة له، ولا تفتيش لحاله، ولا صدق في أحواله، أنّ سكون النفس هو سكون القلب فينقص بذلك ولا يفطن لنقصانه، فإن كان قلبه يسكن إلى أحدهما وفيه صلاح دينه وعمارة آخرته ومحبة ربه، فهذا سكون القلب لأنه يسكن إلى أخلاق الإيمان وماورد العلم به وإن كانت نفسه تسكن إلى أحدهما مما فيه عاجل حظوظ وعمارة دنياه وموافقة هواه، فهذا سكون نفس، لأنها تسكن إلى معاني الهوى، فليتحوّل من الوطن إلى الغربة، وليرجع من الغربة إلى المصر، ومن كان في سفر على غير هذا النعت من التفقد لحاله وحسن القيام بأحكامه فهو على هوى وفتنة، وسفره بلاء عليه ومحنة، وفصل الخطاب أنّ من لم يكن له في سفره حال يشغله، وهمّ يجمعه، ووقت يحبسه، ومأوى يظلّه، ومسكن يؤنسه، وزاد من باطنه، وعلم من عالمه، فإنّ الحضر أرفق لحاله، وأصلح لقلبه، وأسكن لنفسه من السفر، لأنه يكون في السفر مشتّت السرّ، مفرق الهمّ، تارة بوجود معلوم يخاف عليه، ومرة بفقد معتاد يحنّ إليه، مرة باستشراف إلى خلق يطمع فيه، فمرة يضعف قلبه مع العدم، وتارة يقوى بالاستطلاع إلى البشر، ومرة يفزع بفقد ما عنده قد حضر، فمثل هذا يكون في السفر نقصان ما ادعى، والسفر يجمع همّ الأقوياء، ويشتّت قلوب الضعفاء، ويذهب أحوال أهل الابتداء، ثم إن لم يصلح قلبه ولم يستقم حاله في الحضر فإنه لايصلح حاله ولا يستقيم قلبه في السفر، وأنشدوا لبعض السائحين في التغرّب:
ألفت التفرّد والغربه ... ففي كل يوم أطي تربه
فيوم مقيم على نعمه ... ويوم مطلّ على نكبه
ومما يطلب نفس الغري ... ب حبيب تطيب به الصحبه
وقد نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسافر الرجل وحده فقال: الثلاثة نفر، وقال: إذا كنتم في سفر ثلاثة فأمروا أحدكم، قال: فكانوا يفعلون ذلك، ويقولون ذاك أمير أمر رسو ل الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذلك يستحبّ.
وقد جاء في الخبر: خير الأصحاب أربعة، والأسفار، والنزه لا تطيب إلاّ في