في الخلق، والتعرّض للمسألة، فإن لم يكن ذا معلوم معهود كان معلومه العلام الودود، وكان طريقه إليه صدق التوكّل، وزاده في طريقه حسن التقوى له بصحة الأياس من الناس، وعليه حينئذ الصبر على بلائه، والرضا بتصريفه في قضائه، ولاشكر على لطائف نعمائه من منع أو عطاء أو شدة أو رخاء، لأنه في يد الوكيل يقلبه كيف يشاء، والتوكّل عند المتوكّلين هو في الصبر للصبور وتسليم الحكم للحاكم، ومنه قوله تعالى: (الَّذينَ صبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) العنكبوت: 59 وقوله: (إنْ الحُكْمُ إلاَّ لله علَيْهِ تَوَكَّلتُ) يوسف: 67.
وقال رجل لبشر بن الحارث: إني أريد سفراً ولكني منعني أنه ليس عندي شيء، فقال: لا يمنعك العدم من سفرك واخرج لقصدك، فإن لم يعطك ما لغيرك لم يمنعك ما لك، وكان إبراهيم الخواص يقول: كفّ فارغ وقلب طيب ومرّ حيث شئت، ومن طرقته فاقة أو رهقته حاجة لم يخرجه من التوكّل أن يسأل إذا عدم القوة والصبر، لأنه حينئذ يسأل لربه لا لنفسه، يحركه العلم لا الهوى لإقامة فرضه وحفظ عقله الذي هو مكان تكليفه، وفي الأثر: من جاع فلم يسأل فمات دخل النار، لأن ّ ترك السؤال عند خوف رهق الموت، ومع عدم الصبر سبب التلف، إن كان الجوع أحد الحنوف القاتلة، وقد تأوّل بعض متأخّري الصوفية قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أحلّ ما أكل العبد من كسب يده قال: المسألة عند الفاقة وأنا بريء من عهدة هذا التأويل، وقد كان جعفر الخلدي يحكي هذا عن شيخ من الصوفية وكان هو يستحسنه، ولكن قد كان أبو سعيد الخراز يمدّ يده عند الفاقة ويقول: ثم شيء لله.
وحدثونا عن أبي جعفر الحداد، وكان شيخاً للجنيد، له علم في التوكلّ وحال من الزهد، كان يقتات بخروجه بين العشاءين فيسأل من باب أو بابين، فيكون ذلك معلومة إلى بعض حاجاته من يوم أو يومين، ولم يعب هذا عليه أحد من الخصوص، وقد رأى بعض الناس رجلاً من الصوفية دفع إليه كيس فيه مئون دراهم في أول النهار ففرقه كله، ثم سأل قوتاً في يده بعد عشاء الآخرة فعاتبه على ذلك وقال: دفع إليك شيء أخرجته كله، فلو تركت منه لعشائك شيئاً؟ فقال: ما ظننت أني أعيش إلى المساء، ولو علمت ذلك فعلت، وكان هذا زاهد قصير الأمل إلاّ أنّ السؤال للمتوكّل عند الخواص يخرجه من التوكّل، وقد كان سهل يقول: المتوكّل لا يسأل ولا يردّ ولا يحتكر، وليس يخرجه عندي من التوكّل المسألة عند الفاقة، بل عدم الصبر والقوة، ففقد ذينك وجود الإذن من الله له في السؤال إذا كان ناظراً إلى تصريف والوكيل في كل حال، ولأنّ الوليّ الحميد يقلب وليّه في جميع الأحوال، ألم ترَ إلى إمامي أهل الظاهر والكتاب وأهل الباطن والقلوب، استطعما أهلها، لأن المسلم يستحقّ على إخوانه سدّ جوعته لحرمة الإسلام، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليلة الضيف واجبة، وقال عليه الصلاة والسلام: الضيافة حقّ، وفي الخبر: ولك أن تأخذ