الصديقين وقد سمعت بعض هذه الطائفة يقول: حدّ الجوع أن يبزق العبد، فإذا لم يقع على بزاقه ذباب فقد خلت معدته من الطعام يريد أنّ بزاقه قد خلا من الدسومة والدهنية وصار صافيًا مثل الماء فلا يسقط عليه الذباب مع نطق حاسته التي ركبت فيه وخفيّ إدراكه لما يقع عليه، فأما أكل العادات والتنقل في الشهوات والأكل حتى يشبع، فهذا عند العلماء مكروه، وأهله عندهم بمنزلة البهائم وأما الأكل على شبع والامتلاء حتى يتخم فهذا فسق عند العلماء وقد قاله لي بعض العارفين.
وروينا أنه قيل لأبي بكر: إنّ ابنك أكل البارحة حتى بشم، فقال: لو مات ما صلّيت عليه، فأما الصوم فليس هو عندهم الجوع المقصود لإسكان النفس وإخماد الطبع لأن الصوم يصير عادة ويرجع الصائم إلى قوة طبعه إذا أفطر، فأما إذا كان يصوم ويفطر على الشهوت ويمتلئ من الأكل فإن صوم هذا لا يزيده إلاّ قوة طبع وظهور نفس، وتفتق عليه الشهوات، ويدخل عليه الفتور عن الطاعات، ويجلب عليه الكسل والسبات، وربما قوي طبعه جملة واحدة فظهرت عليه نفسه بقوة مجملة إلاّ إنه لا يجري في نهاره إلاّ فيما أجريت عادته عليه وجعل حاله فيه من أبواب الدنيا والتنقل في الهوى، وإن كان ظاهر حاله أسباب الآخرة عنده لقصور علمه، فإن شهودها دنيا، فالتقلل وأخذ البلغة من القوت في الأوقات مع الإفطار أصلح لقلب هذا، وأدوم لعمله، وأبلغ في آخرته من مثل هذا الصوم، لأن هذا الذي وصفناه هو صوم أبناء الدنيا المترفين ليس بصوم أهل الآخرة الزاهدين ولكن بالتقلل والطي وترك الشهوات واجتناب الشبهات تنكسر النفس وتذلّ، ويخمد الطبع، وتضعف الصفة عن العادة، وتقوي إرادة الآخرة، ويعمل المريد في سعيها وتخرج حلاوة الدنيا من القلب فيصير العبد مع التجوع والطي وترك النزهات كأنه زاهد.
وروينا في حديث أسامة بن زيد وأبي يزيد الطويل اختصرته: إنّ أقرب الناس من الله عزّ وجلّ يوم القيامة من طال جوعه وعطشه وحزنه في الدنيا، الأحفياء الأتقياء الذين إن شهدوا لم يعرفوا وإن غابوا لم يفتقدوا، تعرفهم بقاع الأرض وتحفّ بهم ملائكة السماء، نعم الناس بالدنيا ونعموا بطاعة الله عزّ وجلّ، افترش الناس الفرش وافترشوا الجباه والركب، ضيّع الناس فعل النبيّين وأخلاقهم وحفظوهم، تبكي الأرض إذا فقدتهم ويسخط الله تعالى على كل بلدة ليس فيها منهم، لم يتكالبوا على الدنيا تكالب الكلاب على الجيف، أكلوا الفلق ولبسوا الخرق، شعثًا غبرًا، يراهم الناس يظنون أنّ بهم داء، يقال: قد خولطوا وقد ذهبت عقولهم، ولكن نظر القوم بقلوبهم إلى أن ذهبت الدنيا عنهم، فهم عند أهل الدنيا يمشون بلا عقول، عقلوا حيث ذهبت عقول الناس، لهم الشرف في الآخرة، يا أسامة إذا رأيتهم في بلدة فاعلم أنهم أمان لتلك البلدة، لا يعذّب الله عزّ وجلّ