فيكون عدمها كوجودها بعد المشاهدة لاستواء القلب ومعه يستوي المدح والذّم لسقوط النفس وذهاب رؤية الخلق فعندها خلص الإخلاص إلى قلبه لصفاء الزهد وثبت الزهد لسقوط النفس دليل ذلك: الخبر الذي رويناه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لرجل: هل استويت؟ قال: وكيف أستوي؟ قال: يستوي عندك المدح والذم؟ وقول حارثة لما سأله عن حقيقة الإيمان: عزفت نفسي عن الدنيا فابتدأ بالزهد ثم ذكر الاستواء لحجرها وذهبها ثم ذكر المشاهدة بعد ذلك الحديث، وهذه كلها مقامات في الزهد وكل من جعل شيئاً الدنيا مبلغ علمه وعلوّ مشاهدته جعل الزهد ضده.

وقد نوّع أهل المعرفة الإيمان في القلب على مقامين فجعل لهما زهدين فقال: إذا تعلّق الإيمان بطاهر القلب أحبّ العبد الدنيا وأحبّ الآخرة وعمل لهما، فإذا بطن الإيمان في سويداء القلب وباشره أبغض الدنيا فلم ينظر إليها ولم يعمل لها، وقد كان أبو سليمان يقول: من شغل بنفسه شغل عن الناس؛ وهذا مقام العاملين، ومن شغل بربه سبحانه وتعالى شغل عن نفسه؛ وهذا مقام العارفين، ولهذين المقامين دليل من السنّة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل: أيّ الناس خير؟ فقال: من يشنأ الدنيا ويحبّ الآخرة فأوقع الشنآن للدنيا لوقوع ضدّه من حبّ الآخرة والمقام الأعلى دليله من جعل الهموم همّاً واحداً كفاه الله تعالى أمر آخرته ودنياه والهم الواحد بوجد واحد لربّ واحد هو وصف عبد متوحد لواحد مقاله إلى واحد، وقد وهب له خلقاً من أخلاقه فهو الأحد بوحدانية صفته، وعبد متوحدّ بوجده بين خلقه، فهو منفرد الهمّ مجتمع القلب وانفراد الهمّ يكون بعد محو الهوى ومحوه بعد امتحان القلب للتقوى، واجتماع القلب يكون مع طيب النفس وطمأنينتها بالإيمان أو فلاحها بالتزكية والرضا، ما قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طيب النفس من النعيم، وقال الله تعالى: (قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكّاها) الشمس: 9 وقال تعالى: (رَاضِيَّةً مَرْضِيَّة) الفجر: 28 فيكون متوحّداً بالروح مخلقة بأخلاق الإيمان مواطئة للقلب بمشاهدة اليقين، وقال وهب بن منبه: وجدت فيما أنزل الله تعالى على موسى عليه السلام: من أحبّ الدنيا أبغضه الله تعالى، ومن أبغضها أحبه الله تعالى، ومن أكرم الدنيا أهانه الله تعالى، ومن أهانها أكرمه الله تعالى، وأما علماء الظاهر فقالوا: الزهد في الدنيا هو موافقة العلم والقيام بأحكام الشرع وأخذ الشيء من وجهه ووضعه في حقّه، وما خالف العلم فهو هوى كلّه فذكروا فرض الزهد وظاهره ولم يعرفوا دقائقه وبواطنه.

وقد روينا عن سفيان بن عيينة والثوري معنى هذا أنهما سئلا: أيكون الرجل زاهدًا وله مال؟ قالا: نعم إذا كان إذا ابتلى فصبر، وإذا أنعم عليه شكر، قال ابن أبي الحواري

طور بواسطة نورين ميديا © 2015