للمؤذي وخيراً في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِالله فإذا أُوذِي في الله جعل فِتْنَةَ النَّاسِ كعذابِ الله) العنكبوت: 10 له، يعني فتنة الناس به كعذاب الله تعالى يعني إياه أي ليس ذلك عذاباً مني إنما هو رحمة باطنة فهو كقوله تعالى: (وَأَمَّا إذا ما ابتْلاهُ فَقدرَ عليْهِ رِزْقَهُ فيقُول ربّي أهانِنِ) (كَلاّ) سورة الفجر: 16 - 17 أي لم أهنك بالفقر كما لم أكرم الآخر بالإكرام والتنعيم وعلى معنى هذا خاطب نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصبر الذي أمره به فقال تعالى: (اصبِر على ما يَقُولونَ واذْكُرْ عَبْدنا داوُد) ص: 17 فسلاه به وفضله عليه.
وقد روينا في خبر: يؤتى بأشكر أهل الأرض فيجزيه الله تعالى جزاء الشاكرين ويؤتى بأصبر أهل الأرض فيقال له: أترضى أن نجزيك كما جزينا هذا الشاكر؟ فيقول: نعم يا رب فيقول الله تعالى: كما أنعمت عليه فشكر وابتليتك فصبرت لأضعفنّ لك الأجر عليه فيعطي أضعاف جزاء الشاكرين، وكتب ابن أبي نجيح يعزي بعض الخلفاء فقال في كتابه: إن أحقّ من عرف حقّ اللهّ فيما أخذ منه من عظم حقّ الله تعالى عنده فيما أبقى، واعلم أن الماضي قبلك هو الباقي لك والباقي بعدك هو المأجور فيك، واعلم أن أجر الصابرين فيما يصابون فيه أعظم من النعمة عليهم فيما يعافون به، وفي الأخبار: ما من عبد إلا يعطى أجره بحساب وحدّ إلا الصابرين فإنهم يجازفون مجازفة بغير ميزان ولا حدّ، وجاء في الخبر أن أبواب الجنة مصراعان يأتي عليها زحام كثير إلا باب الصبر فإنه مصراع واحد لا يدخل منه إلا الصابرون أهل البلاء في الدنيا، واحد بعد واحد.
وقد قال الله تعالى في جزاء المخلصين: (أولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) الصافات: 41، وقال تعالى في جزاء الصابرين (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرون أجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) الزمر: 10، قيل في التفسير: يغرف لهم غرفاً، المعنى في ذلك أن الصبر أشق شيء على النفس وأكرهه وأمرّه على الطبع وأصعبه فيه الألم والكظم عند الذل والحلم ومنه التواضع والكتم وفيه الأدب وحسن الخلق وبه يكون كفّ الأذى عن الخلق واحتمال الأذى من الخلق، وهذه من عزائم الأمور التي يضيق منها أكثر الصدور وفيه إكراه النفوس وحملها على الشدة والبؤس، وقد جاء أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس، ولأجل ذلك اشترط الله تعالى على المّتقين والصادقين الصبر في الشدائد والمكاره وحقق بالصبر صدقهم وتقواهم وأكمل به وصفهم وأعمال برّهم فقال تعالى: (والصّابِرينَ في الْبَأْساءِ والضَّرَّاءِ وحينَ الْباسِ أُولئكَ الَّذين صدقُوا وأُولئكَ هُمُ الْمُتَّقُون) البقرة: 177، فمعنى الصبر حبس النفس عن السعي في هواها وحبسها أيضاً عن مجاهدتها لمرضاة مولاها بمثل ما يوجب المجاهدة على قدر ما يبتلي به العبد لأن المجاهدة على قدر البلاء والحبس عن نحو الشرود وحبسها على دوام الطاعة وصبرها عن شره الطبع الذي يظهر سوء الأدب بين يدي الربّ سبحانه وتعالى وصبرها على حسن الأدب في المعاملة، ثم يتفرع الصبر إلى معانٍ شتى: من الصبر عن تفاوت الأهواء والصبر على الثبات