إلى الذنب ثم يحزن عليه بقصد له وسعي فيه وإيثاره إياه على الطاعة، إلا أنه يسوّف بالتوبة ويحدث نفسه بالاستقامة ويحب منازل التوابين ويرتاح قلبه إلى مقامات الصديقين ولم يأن حينه ولا ظهر مقامه لأن الهوى يحركه والعادة تجذبه والغفلة تغمره إلا أنه يتوب خلال الذنوب ويعاود لتقدم المعتاد فتوبة هذا فوت من وقت إلى وقت ومثله ترجى له الاستقامة لمحاسن عمله وتكفيرها لسالف سيئته وقد يخاف عليه الانقلاب لمداومة خطئه ونفس هذا هي المسوّلة وهو ممّن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليه فيستقيم فيلحق بالسابقين فهذا بين حالين، بين أن يغلب عليه وصف النفس فيحق عليه ما سبق من القول وبين أن ينظر إليه مولاه نظرة تجبر له كلّ كسر ويغنى له كل فقر فيتداركه بمنّة سابقة فتلحقه بمنازل المقرّبين لأنه قد سلك طريقهم بفضله ورحمته ونيته الآخرة، والعبد الرابع أسوأ العبيد حالاً وأعظمهم على نفسه وبالاً وأقلهم من الله نوالاً عبد يذنب ثم يتبع الذنب مثله أو أعظم منه ويقيم على الإصرار ويحدث نفسه به متى قدر عليه ولا ينوي توبة ولا يعقد استقامة ولا يرجو وعداً بحسن ظنّه ولا يخاف وعيداً لتمكّن أمنه، فهذا هو حقيقة الإصرار ومقام بين العتو والاستكبار، وفي مثل هذا جاء الخبر: هلك المصرّون قدماً إلى النار ونفس هذا هي الأمّارة وروحه أبداً من الخير فرّارة ويخاف على مثله سوء الخاتمة لأنه في مقدماتها وسالك طريقتها ولا يبعد منه سوء القضاء ودرك الشقاء ولمثل هذا قيل من سوف الله تعالى بالتوبة أكذبه وأن اللعنة خروج من ذنب إلى أعظم منه، وهذه الطائفة في عموم المسلمين، وهم في مشيئة الله من الفاسقين، كما قال تعالى: (مُرْجَوْنَ لأمْرِ الله) التوبة: 106 أي مؤخرون لحكمه إما يعذبهم بالإصرار وإما يتوب عليهم بما سبق من حسن الاختيار نعوذ بالله تعالى من عذابه ونسأله نعيماً من ثوابه، وهذا آخر كتاب التوبة.
شرح مقام الصبر
ووصف الصابرين وهو الثاني من مقامات اليقين
قد جعل الله عزّ وجلّ الصابرين أئمة المتقين وتمّم كلمته الحسنى عليهم في الدين فقال تعالى: (وجَعَلْناهمْ أئِمَةً يَهْدُونَ بأمْرِنا) الأنبياء: 73 لما صبروا، وقال تعالى: (وتَمَّتْ كلمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى على بني إسْرائيل بِما صَبَرُوا) الأعراف: 137، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وقال المسيح عليه السلام: إنكم لا تدركون ما تحبون إلا بصبركم على ما تكرهون، وقال بعض الصحابة: ماذا جعل الله تعالى من الشقاء والفضل في التقى والصبر، وقال ابن مسعود: الصبر نصف الإيمان، وقد جعل علي كرم الله وجهه الصبر ركناً من أركان الإيمان وقرنه بالجهاد والعدل والإيقان فقال: بني الإسلام على أربع دعائم، على اليقين، والصبر، والجهاد، والعدل، وقال عليّ كرم الله وجهه: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد لا جسد لمن لا رأس له ولا إيمان لمن لا صبر له، ورفع رسول الله: الصبر في العلو والفضل إلى مقام اليقين