يسمعوا هذا العلم إلا من أهله الزاهدين في الدنيا وكرهوا أن يسمعوه من أبناء الدنيا وزعموا أنه لا يليق بهم، واعلم أن العبد إذا كان يذكر الله تعالى بالمعرفة وعلم اليقين لم يسعه تقليد أحد من العلماء، وكذلك كان المتقدمون إذا افتتحوا هذا المقام خالفوا من حملوا عنه العلم لمزيد اليقين والإفهام، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد كان تعلم من زيد بن ثابت الفقه وقرأ على أبي بن كعب ثم خالف زيداً في الفقه وأبياً في القرءة.
وقال بعض الفقهاء من السلف: ما جاءنا عن رسول الله قبلناه على الرأس والعين وما جاءنا عن الصحابة فنأخذ به ونترك وما جاءنا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال قالوا: ونقول ولأجل ذلك كان الفقهاء يكرهون التقليد ويقولون: لا ينبغي للرجل أن يفتي حتى يعرف اختلاف الفقهاء أي فيختار منها على علمه الأحوط للدين والأقوى باليقين، فلو كانوا يستحبون أن يفتى العالم بمذهب غيره لم يحتج أن يعرف الاختلاف ولكان إذا عرف مذهب صاحبه كفاه، ومن ثم قيل: إن العبد يسأل غداً فيقال ماذا عملت فيما علمت؟ ولا يقال له فيما علم غيرك.
وقد قال الله تعالى: (وقَالَ الَّذينَ أُوتُوا الْعِلْم والإيمانَ) الروم: 56 ففرق بينهما يدل به أن من أوتي إيماناً أوتي علماً كما أن من أوتى علماً نافعاً أوتي إيماناً وهذا أحد الوجوه في معنى قوله سبحانه: (كتبَ في قُلوبِهِمُ الإيمانَ وَأَيَّدهَهُمْ بِروُحٍ مِنْه) المجادلة: 22 أي قواهم بعلم الإيمان، فعلم الإيمان هو روحه وتكون الهاء عائدة إلى الإيمان وكذا العالم الذي هو من أهل الاستنباط والاستدلال من الكتاب والسنّة فإنه أداة الصنعة وآلة الصنع لأنه ذو تمييز وبصيرة ومن أهل التدبر والعبرة، فأما الجاهل والعامي الغافل فله أن يقلد العلماء ولعالم عموم أيضاً أن يقلد عالم خصوص وللعالم بالعلم الظاهر أن يقلد من فوقه ممن جعل على علم باطن من أهل القلوب لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ردّ من علم الألسنة والفتيا إلى علم القلوب ولم يرد أهل القلوب في علمهم الذين يختصون به إلى المفتين لأنهم يأخذون من المفتين فتياهم ثم يجدون في قلوبهم حيكاً وحزازة فيلزمهم فتيا القلب لقوله: استفتِ قلبك بعد قوله وإن أفتاك المفتون مع قوله الإثم حزاز القلوب إلى قوله ما حاك في صدرك فدعه وإن أفتوك وأفتوك ثم درس معرفة هذا فجهل فصار كل من نطق بكلام وصنعه غرب على السامعين لا يعرف حقه من باطله سمي عالماً وكل كلام مستحسن زخرف رونقه لا أصل له يسمّى عالماً لجهل العامة بالعلم أي شيء هو ولقلة معرفة السامع بوصف من سلف من العلماء كيف كانوا فصار كثير من متكلمي الزمان فتنة المفتون وصار كثير من الكلام والرأي والمعقول الذي حقيقته جهل كأنه علم عند الجاهلين فلا يفرقون بين المتكلمين والعلماء ولا يميزون بين العلم والكلام،