الأحكام والفتاوى كان الولاة والأمراء يقومون به وترجع العامة إليهم فيه ثم ضعف الأمر وعجزت الولاة عن ذلك لميلهم إلى الدنيا وشغلهم بالحروب عنها فصاروا يستعينون على ذلك بعلماء الظاهر وبالمفتين في الجوامع، فكان الأمير إذا جلس للمظالم قعد عن يمينه وشماله مفتيان يرجع إليهما في القضاءوالأحكام ويأمر الشرط بمثل ذلك فكان من الناس من يتعلم علم الفتيا والقضاء ليستعين بهم الولاة على الأحكام والقضاء حتى كثر المفتون رغبة في الدنيا وطلباً للرياسة ثم اختلف الأمر بعد ذلك حتى تركت الولاة الاستعانة بالعلماء ومما يدلك على ذلك حديث عمر رضي الله عنه حيث كتب إلى ابن مسعود عقبة بن عامر ألم أخبر أنك تفتي الناس ولست بأمير ولا مأمور، وفي حديث أبي عامر الهروي قال: حججت مع معاوية فلما قدمنا مكة حدث عن رجل يقضي ويفتي الناس مولى لبني مخزوم فأرسل إليه فقال: أمرت بهذا قال: لا، قال: فما حملك عليه؟ قال: نفتي وننشر علماً عندنا، فقال معاوية: لو تقدمت إليك قبل يومي هذا لقطعت منك طابقاً ثم نهاه ولم يكونوا يقولون ذلك في علم القلوب ولا علم الإيمان واليقين بل قد كتب عمر إلى أمراء الأجناد: احفظوا ما تسمعون من المطيعين فإنهم تجلّى لهم أمور صادقة وقد كان عمر رضي الله عنه يجلس إلى المريدين فيستمع إليهم.
وفي الخبر: إذا رأيتم الرجل قد أوتي صمتاً وزهداً فاقتربوا منه فإنه تلقى الحكمة، وقال بعض أصحاب الحديث: رأيت سفيان الثوري حزيناً فسألته فقال وهو برم: ما صرنا إلا متجر الأبناء الدنيا قلت: وكيف؟ قال: يلزمنا أحدهم حتى إذا عرف بنا وحمل عنا جعل عاملاً أو جابياً أو قهرماناً، وكان الحسن يقول: يتعلم هذا العلم قوم لا نصيب لهم منه في الآخرة يحفظ الله تعالى بهم العلم على الأمة لئلا يضيع، وقال المأمون رحمه الله: لولا ثلاث لخربت الدنيا: لولا الشهوة لانقطع النسل ولولا حب الجمع لبطلت المعايش ولولا حب الرياسة لذهب العلم، فهذا كله وصف علماء الدنيا وأهل علم الألسنة، وأما علماء الآخرة وأهل المعرفة واليقين فإنهم كانوا يهربون من الأمراء ومن أتباعهم وأشياعهم من أهل الدنيا وكانوا ينتقصون علماء الدنيا ويطعنون عليهم ويتركون مجالستهم، وقال ابن أبي ليلى أدركت في هذا المسجد مائة وعشرين من الصحابة ما سئل أحدهم عن حديث ولا استفتي في فتيا إلاودّ أن صاحبه قد كفاه ذلك، وقال مرة: أدركت ثلاثمائة يسأل أحدهم عن الفتيا أو الحديث فيرد ذلك إلى الآخر ويحيل الآخر على صاحبه وكانوا يتدافعون الفتيا ما بينهم ولم يكونوا إذا سئل أحدهم عن مسألة من علم القرآن أو علم اليقين والإيمان يحيل على صاحبه ولا يسكت عن الجواب.