الفصل السادس والعشرون
كتاب ذكر مشاهدة أهل المراقبة
أعلم أن مشاهدة المراقبين هي أول مراقبة المشاهدين، وذلك إن من كان مقامه المراقبة كان حاله المحاسبة ومن كان مقامه المشاهدة كان وصفه المراقبة فأول شهادة المراقب هو أن يعلم يقيناً أن لا يخلو في كل وقت وإن قصر من أحد ثلاثة معان: أن يكون للَّه عزّ وجلَّ عليه فرض، والفرض على ضربين شيء أمر بفعله أو شيء أمر بتركه وهو اجتناب المنهي، والمعنى الثاني ندب حث عليه وهو المسابقة بخير يقربه إلى اللَّه عزّ وجلّ والمسارعة بعمل بر يبتدره قبل فوته، والمعنى الثالث شيء مباح فيه صلاح جسمه وقلبه وليس للمؤمن وقت رابع فإن أحدث وقتاً رابعاً فقد تعدّى حدود اللَّه ومن يتعدَّ حدود اللَّه فقد ظلم نفسه وقد أحدث في دين اللَّه سبحانه وتعالى ومن أحدث في دين اللَّه فقد سلك غير طريق المتقين، ألم تسمع إلى قوله عزّ وجلّ: (وَهُوَ الَّذي جَعَلَ الليلَ والنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أرَادَ أنْ يَذَّكَّرَ أوْ أرَادَ شُكُوراً) الفرقان: 62 فهل ترى بين هذين وقتاً يجهل أو هوى كما لا ترى بين الليل والنهار وقتاً ثالثاًِ، فالذكر الإيمان والعلم، فهذان ينتظمان جهل أعمال القلوب والشكر والعمل بأخلاق الإيمان وأحكام العلوم، وهذان يشتملان على جميع أعمال الجوارح، قال اللَّه عزّ وجلّ: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَشُكْراً) سبأ: 12 وقال: (فَاتَّقُوا اللَّه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون) آل عمران: 123 وقال: (كَما أَرْسَلّْنْا فيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) البقرة: 151 إلى قوله: (فَاذْكُرُوني أذّْكُرّْكُمْ وَاشْكُرُوا لي وَلا تَكْفُرُون) البقرة: 152 وقال اللَّه تعالى: (مَا يَفعَلُ اللَّه بِعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ) النساء: 416 وقال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقد عوتب في طول قيامه حتى تورمت قدماه فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً، ففسر الشكر بالعمل كما فسر اللَّه عزّوجلّ العمل بالشكر، والوقت الثالث هو المباح داخل فيهما لأنه معين عليهما وبه استقامة العبد فيهما، وقد كان بعض العلماء يقول: لنا في معاصي الطاعات همّ وشغل عن معاصي المخالفات فيبتدئ العبد المراقب فينظر بيقظته في أدنى وقت هل عزّ وجلّ فيه فرض من أمر أو نهي؟ فيبدأ بذلك حتى يفرغ منه فإن لم يجد فإنه لا يخلو من نوادب وفضائل